ما أكثر ما كتب عن ابن خلدون ومقدمته من أبحاث ودراسات في الشرق والغرب، طيلة القرنين الأخيرين، حتى أن هذه الكتابات تشكل اليوم، بحق، مكتبة غنية تزداد امتلاءً يوماً بعد يوم.. ولكنه وحيث أشبعت بحثاً النواحي الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والتاريخية والسياسية والحضارية والفلسفية والأدبية والمقارنة والمنهجية؛ لم تنل المسألة الدينية أي اهتمام يذكر، على عمقها واتساعها في المقدمة، وعلى ارتباطها بهذه الجوانب الآنفة الذكر جميعاً.
أكثر من ذلك، إن أحد الباحثين الغربيين وهو دي بويز T.J. de Boer الهولندي يذكر "أن الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون العلمية بقدر ما أثرت الأرسطوطاليسية الأفلاطونية، ويشير باحث آخر هو ناتانيل شميت N.Schmidt الأستاذ في جامعة كورنل بأميركا أن ابن خلدون "إذا كان يذكر خلال بحثه كثيراً من آيات القرآن، فليس لذكرها علاقة جوهرية بتدليله، ولعله يذكرها فقط ليحمل قارئه على الاعتقاد بأنه في بحثه متفق مع نصوص القرآن". وثمة مستشرق ألماني هو فون فيسدنك Von Wesendonk يقول أن ابن خلدون "تحرر من أصفاد التقاليد الإسلامية في درس شؤون الدولة والإدارة وغيرهما، ونه حرر ذهنه، كذلك، من القيود الفكرية التي ارتبطت في عصره بالعقائد العربية الصحيحة.
إنه إذن لتحدّ ذو طرفين يجد الباحث المسلم نفسه معه في وضع يتحتم الرد عليه.. سيل من الأبحاث والدراسات لا تتضمن أي التفات جدي صوب البعد الديني في مقدمة ابن خلدون وحشد من الشهادات، تلك نماذج منها، تريد أن تبرز لنا ابن خلدون كما لو لم تكن لمعطياته أي علاقة بالأرضية الدينية منهجاً وموضوعاً.. بل إننا لو توغلنا في قراءة الكثير من تلك الأبحاث لرأيناها، بسبب من تشنجها المنهجي أو المذهبي، وجزئية رؤيتها ونسبيتها، تسعى لإخراج ابن خلدون من الدائرة الطبيعية التي عاش فيها وتحرك خلالها وتلقى علمه من مواردها، وبنى قدراته ونزعاته في بيئتها وتقذف به بعيداً إلى أجواء غريبة ما كان يعرف عنها شيئاً وما خطرت له على باب... وأن بعضاً من هذه الأبحاث، في أقصى حدتها، جعلته مفسراً مادياً للتاريخ لا يحسب للمؤشرات اللامادية: غيبية وروحية، أيما حساب. إنه انفصام غريب بين الرجل وبيئته.
إنه انفصام غريب بين الرجل وبيئته، ذلك الذي سعت بعض تلك الأبحاث إلى تأكيده بالأدلة الناقصة، المبتسرة حيناً، وبالقصر المتشنج حيناً آخر. ويبقى ابن خلدون، رغم هذا كله، ابن الإسلام، وليد البيئة الإسلامية الشرعي، وتبقى مقدمته على مستوى الفكر ومستوى الحياة، ثمرة ناضجة من ثمارها المترعة...
ومن وراء هذا وذاك يبقى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المؤشران الأبديان اللذان يصوغان البيئات ويبعثان الرجال... هذا هو مدار البحث في هذه الدراسة التي يجدها القارئ بين يديه والتي تمثل ثمرة محاولة للردّ على ذلك "التحدي" ذي الطرفين!!
في هذه الدراسة وبعد تفحص الباحث لمقدمة ابن خلدون يضع يده على اتجاهات أو تيارات ثلاثة تحرك الرجل من خلالها. يتمثل أولها في أطروحاته عن دور الدين في الواقعة التاريخية: خلقاً أو إضافة أو تعديلاً أو توجيهاً، وذلك هو موضوع الفصل الأول من هذه الدراسة، لأنه يعدّ-بحق-أهم معطياته في هذا المجال بسبب من ارتباطه المباشر بالوحدة المنهجية التحليلية لمقدمته ولصيرورة الواقعة التاريخية ونموّها في الزمان والمكان، وبسبب من علاقتها المباشرة في فلسفة التاريخ.
ويتمثل ثاني هذه الاتجاهات في تفسيراته الدينية لعديد من وقائع تاريخنا الإسلامي بالذات، وهو الساحة التي انصبت عليها جلّ اختباراته ومارس فيها معظم جوانب استقرائه الذي قاده إلى صياغة قوانينه العديدة التي ضمتها مقدمته، وهو في هذا الاتجاه يمارس (تحليلاً) للتاريخ الإسلامي يلقي المزيد من الأضواء على صيرورته وخصائصه، وهذا هو موضوع الفصل الثاني من هذا البحث.
أما ثالث الاتجاهات فيتبدى في تحليلات ابن خلدون للدين في آفاقه الشاملة... الدين الموحى به من الله سبحانه إلى أنبيائه عليهم السلام، ويقترب أحياناً كثيرة من الحقل المسمى بفلسفة الدين، مبيناً (ضرورة) التجربة الدينية للمجتمع البشري، الدور الكبير الذي تلعبه في سياسة المجتمعات، مقارناً بين مصادر المعرفة التي تتبلور في الوحي والعقل، مؤكداً المكانة الفوقية للوحي، متحدثاً عن الأخطاء المنهجية والموضوعية التي يمارسها العقل فيما يسمى بفلسفة الإلهيات، رافضاً خرافة التنجيم وما يرتبط به من فعاليات لا تقوم على الدين والعقل والمنطق، سارداً في نهاية الأمور، لعدد من الممارسات والتجارب التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، ولا يزال، مما يخرج عن دائرة المعقول والمحسوس، مميزاً خلال ذلك، بحسّه النقدي المعروف، بين الحق والباطل والعلم والخرافة... وذلك ما جعله الباحث موضوعاً للفصل الثالث والأخير من هذه الدراسة..