تعاني مناهج دراسة الحضارة الإسلامية في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا من عيوب شتى، أبرزها ـ ولا ريب ـ تقطيع جسد هذه الحضارة وتقديمها للطالب مزقا وتفاريق . وهي بهذا ستفقد شخصيتها المتميزة وملامحها المتفردة التي تمنحها الخصوصية بين الحضارات ، وتصير مجرد أنشطة ثقافية أو معرفية او مدنية في هذا المجال او ذاك ، قد تتميز ببعض الخصائص ، لكنها لا تعكس التصور النهائي لرؤية المنتمين إليها للحياة والعالم والوجود .
إن معاهدنا وجامعاتنا تقطع سياق هذه الحضارة ووحدتها ، فيما تسميه " الضرورات الزمنية " حينا ، و " المنهجية " حينا آخر ، و " التخصصية " حينا ثالثا . فتدرس النشاط الاقتصادي في سنة او مساق ، والحياة الاجتماعية في مساق آخر ، والحركة العلمية في مساق ثالث ، والنظم الإدارية في مساق رابع . لا بل أنها حتى وهي تدرس كل واحد من هذه المساقات تتعامل معه مقطعا مجزءا لا يكاد يملك خصوصياته وتميزه على مستوى التصورات التي تصوغه والممارسات التي تنزل به إلى واقع الحياة .
وهكذا تصير دراسة الحضارة الإسلامية ـ في نهاية الأمر ـ لهاثا وراء مبررات الجزية ودفاعا عن موقف الإسلام من فرضها على أهل الكتاب ، وركضا وراء قوائم الضرائب الأخرى ، ومتابعة للمحتسب وهو يتجول في الأسواق لمعاقبة المخالفين . كما تصير استعراضا وصفيا صرفا لمنظومة الدواوين التي لا أول لها ولا آخر ، وللصراع على منصب الوزارة ، وللترتيبات الأمنية والعسكرية للشرطة والجيش ، كما تغدو في السياق العلمي تصنيفا فجا للعلوم النقلية والعقلية . وإحصاء للمدونات التي كتبها الأجداد . وفي سياق العمران يلقن الطلاب وصفا ماديا مملا لمفردات الريازة وقياساتها وأحجامها بعيدا عن الخلفيات الرؤيوية التي وضعت لمساتها عليها وقدمتها للعالم وهي تحمل خطابا معماريا عز نظيره بين الثقافات .
ويتخرج تلميذ الثانوية والطالب الجامعي وهو لا يكاد يملك معرفة معمقة بخصائص حضارته الإسلامية ، وبالمكونات التي تميزها عن الحضارات الأخرى ، فضلا عن أنه يتخرج وهو لا يملك الاعتزاز بحضارته والفخر بها ، بما أن النشاط التدريسي في التاريخ والحضارة ينطوي ـ بالضرورة ـ على بعد تربوي ، لكن هذا البعد يتفكك ويغيب من خلال الخطيئة المنهجية التي لا تكاد تمنح الطالب أي ملمح يجعله يتشبث بتراثه الحضاري باعتباره أقرب إلى مطامح الإنسان ومهماته الأساسية في هذا العالم . بل أننا قد نصل ـ في نهاية الأمر ـ إلى نتائج معاكسة تتمثل في رفض حشود الخريجين لتراثهم الحضاري ، وإنكاره ، وإعلان التمرد عليه ، والاندفاع بالمقابل في اتجاه إغراءات الحضارات الأخرى ، وإغواء بريقها الظاهري الخادع ، وبخاصة الحضارة الغربية ، وبهذا يصير تدريس الحضارة الإسلامية سلاحا نشهره ضد أنفسنا لتدمير الثقة بمقومات حضارتنا وقدرتها على الاستعادة والفاعلية في صميم العصر، وفي مشاركاتها المحتملة في صياغة المصير البشري كما يؤكد العديد من المفكرين والباحثين والمستشرقين الغربيين أنفسهم .