حوار مع الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل

أجراه الأخ إسماعيل طه في 27/1/2013

 

سؤال : للنهوض الحضاري للأمة المسلمة لابّد من الوعي بالهوية وتوطين الذات ،
لكن نرى الاستلاب لأنظمة فكرية وتنظيمية ناتج خبرة غربية ، فقد ظهر الحداثيون العرب والتفكيكيون وما شابه ، كيف يمكن أن يتم التعامل مع هذا الوضع على المستوى الفكري ؟

دعني ابدأ حديثي معك وجواباً على سؤالك هذا ، من خلال خبرتي الشخصية مع ثلاثة من الحداثيين المحسوبين على العرب.

في عام 2008 على ما أذكر أتيح لي أن أطلع على حلقة من برنامج ( الاتجاه المعاكس ) في قناة الجزيرة الفضائية ... كان محمد أركون أحد طرفي الحوار ... دققت في ملامحه فوجدته كالطفل الخائف المذعور ... يتراجع عن رأيه بمجرد أن يجابه بموقف حازم من الطرف الآخر ... يعتذر ... يتلكأ ... وكان يعتمد ما أسميه باللغة الثالثة في طرحه ... خليط من الألغاز والمعميات ، وكأن اللغة العربية عاجزة عن نقل أفكاره بالوضوح المطلوب.

قلت في نفسي : هذا هو إذن أحد أعمدة الحداثة الإسلامية في القرن العشرين ... تشويه مقصود لكل ما هو إسلامي أصيل ... عكس للرؤية بزاوية 180 درجة بين تأسيسات هذا الدين العظيم وبين ما يريده أن يكون عليه الحداثيون !!

لم استغرب هذه الجملة من النقائض والترّهات الفكرية التي طرحها الرجل والتي سبق
وأن ملأ بها بحوثه ومؤلفاته ... إذا كان الرجل يستمد جذور أفكاره المعوجة هذه من أستاذه ( فوكو ) الذي اتهم في بولندة بالشذوذ الجنسي ، ثم ما لبث أن توفي بمرض الإيدز ، فلابّد أن ينعكس ذلك على منظور أركون الفكري ... وإذا كان أستاذه الآخر الفيلسوف الألماني ( نيتشه ) ، الذي أعلن عن موت الإله ، قد انتهى به المطاف إلى مستشفى الأمراض العصبية ، فلا يستغرب هذا الإفراز المرضي من تلميذه الفكري
( أركون ).

قبل ذلك بخمسة عشر عاماً ، أتيح لي أن التقي عرضاً بحداثي مصري استدعي للمشاركة في أحد المؤتمرات في المغرب ... كان يدعو في كل حوار يجمعه مع بعض المشاركين ، إلى القول بأنه لا يوجد شيء اسمه ( حضارة إسلامية ) على الاطلاق ... وانما هي مجموعة من الاقتباسات الفجّة عن الحضارة اليونانية ، وبأن العقل المسلم لم يقدّم أو يبتكر أو يضيف أي شيء على الاطلاق لما سبق وأن قدّمه العقل اليوناني ... كان يرفض الحوار وينقفل على قناعاته الخاصة ... فقررت أن أقرأ بحثه الذي سيلقيه في المؤتمر ... فوجئت بأنه ليس بحثاً على الاطلاق ، ولا يمت للأصول الأكاديمية المتبعة في كتابة البحوث بأية صلة ... مجموعة من الشتائم الرخيصة التي صبّها على رؤوس الإسلاميين ... واستدعاء للشرطة والبوليس في ضرورة ملاحقتهم ، وتضييق الخناق عليهم ، واستئصالهم من الوجود ... الأمر الذي دفعني إلى الشك بأن هذا الدكتور الحداثي مبعوث من المخابرات المصرية يومها إذ كيف يبرّر لنفسه ، وهو الأستاذ الجامعي أن ينجرف إلى ما لا يفعله السوقة وأراذل الناس ؟

في عام 2011 م شاءت الظروف أن التقي عبر مؤتمر في اسطنبول بحداثي ثالث ... مؤلف مصري كبير ... كانت كتبه منذ عقود تترى على الناس ... بالتناقضات الحداثية نفسها ... وبالغطاء الفلسفي المخادع الذي يعتّم الرؤية على المتلقّين ... وبمحاولة إنزال كتاب الله سبحانه وتعالى من عليائه ، ووضعه كنص أدبي لدراسة الناس ، بعد تجريده من قدسيته وتميّزه ، باعتباره قادم من عند الله الذي يعلم من خلق وهو سبحانه بكل شيء خبير.

تابعت محاضرته البائسة على مجموعة الطلبة الذين دعوا لسماع محاضرات المشاركين فإذا به يبدأ كلامه بالهجوم على الفكر الغيبي ، وإدانة تشبث المسلمين بالغيبيات ، واعتبار ذلك سبب الأسباب في تخلفهم عن اللحاق بركب الحضارة الغربية المتفوقة ... ويستمر يقدّم هذه الترهات بانفعال شديد ، حتى إذا انتهى من كلامه طلبت مناقشته وبدأت حديثي بأنه يمارس تضليلاً للطلبة الأتراك المساكين وأنه يناقض تأسيساً
قرآنياً للعقيدة الإسلامية باعتبار الايمان بالغيب هو نقطة الانطلاق ، ثم تلوت
الآيات الأولى من سورة البقرة : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ + الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...}.

وقلت بأن ذلك يتوافق مع دعوة القرآن إلى الالتحام بالكتلة ، بفيزياء العالم ، فيما يزيد عن ألف آية ... وفيما يدفع المسلمين ، وقد دفعهم فعلاً : إلى تلك الحركة العلمية التي كانت أساس حضارتهم ، والتي قدمت للحضارة الغربية تأسيساتها الأولى التي
انبنت عليها ... ويوم أن ارتخت أيديهم عن الإمساك بالكتلة ، فيما هو نقيض الموقف القرآني ، تركوا الفرصة للآخرين بأن يتفوقوا عليهم ويسوموهم سوء العذاب ... فأية علاقة إذن بين تخلّف المسلمين وبين إيمانهم بالغيب ؟ و ...

قبل أن أتمّ كلامي رأيت الرجل وقد ارتبك ، وأصفّر وجهه ، وراح يصرخ : أتريد أن يقتلني خصومي ... وأن ألاحق في كل مكان ! فما كان مني إلاّ أن أهدئ من روعه ، وأقول له إننا هنا في حلقة نقاش علمي وليس في حلبة ملاكمة ... لقد ضلّلت بكلامك حشوداً من الطلبة ، فأردت أن أوضّح لهم الحق ...

كلهم سواء هؤلاء الحداثيون ... في تناقض أفكارهم ... في نفي أحدهم الآخر ... في اهتزاز شخصياتهم ... وفي حقدهم الذي لا حدود له على كل ما هو إسلامي أصيل في هذا العالم.

الأنسنة والعقلنة والترخنة ... فأي شيء أكثر من هذا ، وأبشع منه في تنزيل كتاب الله المتعالي الذي لا يأتيه البطل من بين يديه ولا خلفه ... إلى اعتباره نصّاً أدبياً وضعياً قابلاً للنقد والتفكيك والتشريح ؟!

الأنسنة حيث يجرد كتاب الله من بعده الغيبي ومن ارتباطه بالوحي ... والعقلنة حيث يحكم العقل البشري النسبي القاصر المحدود ذو الأهواء والنزعات في النص الإلهي ويعبث بمعطياته ... والترخنة حيث يسجن هذا النص المتعالي على الزمن والمكان في دائرة التاريخ !!

ولكنها بأباطيلها لم تصمد ازاء موجات أخرى كانت ولا تزال يضرب بعضها بعضاً ويسقط بعضها بعضاً ، لأنها في حقيقتها لا تعدو أن تكون شبكة متهافتة من الظنون والأوهام تسعى لأن تستعبد الناس باسم العلمية والأسلوب العلمي ... {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }. وصدق الله العظيم ( سورة النجم ، الآية 23 ).

سؤال : هل ترى أن النهوض الحضاري للأمة يتطلب معالجة حقيقية للأزمة الفكرية الراهنة ، دون انغلاق على الذات وبصورة تنأى عن الذوبان في فكر الآخر ... كيف يمكن أن يتم ذلك ... هل الحلّ منهجي أم مفاهيمي وقيمي ؟

الحلّ منهجي ومفاهيمي وقيمي معاً ... فنحن ما ضيّعنا سوى تشبثنا بمبدأ إما هذا أو ذاك ، ولو أننا استبدلناه بمنهج هذا وذاك لأغنانا ذلك عن الكثير الكثير من الجدل والنقاش في المنتديات والمؤتمرات وساحات العلم والمعرفة ، حيث ينقسم المتحاورون إلى طرفين كل طرف يتشبث بجانب من القضية موضوع النقاش ، ولهذا تراهم لا يصلون إلى نتيجة مقنعة في معظم الأحيان. ولو أنهم تعاملوا بمنطوق ( هذا وذاك ) لما أصرّ كل طرف على رأيه الأحادي الجانب ، ولاجتمعوا على موقف موحّد.

مهما يكن من أمر فان النهوض الحضاري للأمة المسلمة يتطلب – فعلاً – معالجة حقيقية للأزمة الفكرية الراهنة ، دون انغلاق على الذات ، وبصورة تنأى عن الذوبان في فكر الآخر ، ولقد عالجت هذه المسألة بالتفصيل في الفصل الرابع من كتابي ( مدخل إلى الحضارة الإسلامية ) الذي صدر عام 2005 م عن المركز الثقافي العربي في الرباط والدار العربية للعلوم في بيروت ، وذلك من خلال السياق الفكري والثقافي والعلمي والحضاري والإنساني ... فلا مبّرر للتكرار.

سؤال : مصادر المعرفة في النظام الإسلامي تعترف بالعقل والتجربة معاً في إطار عالم الشهادة ، وبالوحي الإلهي في إطار عالم الغيب. وكذلك الوحي الإلهي ليس بعيداً عن حقائق نراها في عالم الشهادة ... كيف نترك منهجية إسلامية متوازنة ، ونستقي معارفنا من خلال منهجية متحيّزة ... منهجية وضعية بحت في نظامنا التعليمي ... هل الأمر يحتاج إلى إصلاح الأنظمة التعليمية وبناء نعارف تنبثق من رؤيتنا ونظامنا المعرفي ... حتى نعالج حالة الاستلاب الفكري ؟

الذي اخترق عقلية أمتنا الإسلامية في العصر الحديث هو رفض المنهج الإسلامي في التعامل المعرفي ، واستدعاء المنهج الغربي العلماني في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا ، في طول البلاد الإسلامية وعرضها ... هذا المنهج الذي فك ارتباطه بعالم الغيب ، ورفض التلقي عن السماء ، والتصق بالأرض ... بالكتلة ... بالمادة ... وبالمصلحة الذرائعية ... فانتهى به الأمر إلى الطرق المسدودة.

وكان على القائمين على التعليم في ديارنا أن يفرّقوا في تعاملهم مع المنهج بين نمطين من المعرفة ... نمط المعرفة الإنسانية ( في علوم الاجتماع والنفس والتاريخ والسياسة والإدارة والاقتصاد والتربية والآداب والفنون ... الخ ) ونمط المعرفة الصرفة والتطبيقية
( في علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والأرض والنبات والحيوان ...
والعلوم التكنولوجية ... ) ... أن يرفضوا الأخذ عن الأولى ، والتسليم بمقولاتها الظنية الخاطئة ، وأن يتشبثوا بالثانية ... ولكنهم ضلّوا الطريق فأخذوا عن الاثنتين فضيّعوا أجيال الطلبة ، ودفعوهم إلى ما يمكن اعتباره – بشكل من الأشكال – حالة انفصام في الشخصية بين الديني والدنيوي ، فيما لم يأذن به الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث التوحّد المطلق بين القطبين ، وحيث يغيب الازدواج وتتكامل الشخصية في ظلال منهج تلتقي فيه سائر الثنائيات التي اصطرعت وتقاتلت في ساحات الغرب ، ولكنها في ظلال هذا الدين ، تصالحت وفق أقصى حالات التوافق والانسجام : الله والإنسان ... الغيب والوجود ... الروح والجسد ... الفرد والجماعة ... المنفعة والجمال ... العدل والحرية ... السماء والأرض ... الفناء والخلود ... الدنيا والآخرة ... إلى آخره ...

إن اعتماد نتائج ومعطيات المعرفة الإنسانية الغربية في مدارسنا وجامعاتنا ، كانت – كما يقول ليوبولد فايس في كتابه القيّم ( الإسلام على مفترق الطرق ) أشبه بالمصل المسموم الذي حقنت به أدمغة طلبتنا ، فقادتهم إلى الضياع.

وبدلاً من أن نضع أنفسنا في قفص الاتهام ونلجأ إلى الدفاع عن قناعاتنا ، علينا أن نتحول إلى الهجوم – الذي هو خير وسيلة للدفاع – فنعّري الفكر الغربي في تعامله مع المعارف الإنسانية ، وتبيّن أخطاءه وسقطاته ، ثم نتحول إلى عمل تأسيسي للمعرفة الإنسانية في سياقاتها كافة ، يستمدَّ جذوره من عقيدة هذه الأمة التي لم تبخل مطلقاً عن الإجابة على كل سؤال في شتى ميادين المعرفة الإنسانية. وهكذا قامت حركة ( أسلمة المعرفة ) أو ( التأصيل الإسلامي للمعرفة ) لتدارك هذه الفجوة ، وتقديم علم اجتماع إسلامي وعلم نفس إسلامي وعلم إدارة إسلامي ... الخ ... من أجل العودة بالضائعين إلى الطريق.

والآن فان هذه الحركة ، منذ تأسيسها في بداية ثمانينيات القرن الماضي ، قد قطعت خطوات واسعة في الطريق ، وخرّجت حشوداً من علماء الاجتماع والنفس
والإدارة والسياسة والاقتصاد ... الخ ، وعقدت مئات الندوات والمؤتمرات ... وأصدرت أكثر من ثلاثمائة كتاب ... وأنشأت جامعات تعنى بتقديم المعرفة الإنسانية وفق المنظور الإسلامي المتوازن القائم على الوحي والوجود ... وهي ماضية في طريقها لتقديم المزيد ...

لقد اتيح لي في كتابي ( حوار في المعمار الكوني ) ( الذي صدر عام 1987 م ) أن الاحق حشوداً من أخطاء المعرفة الإنسانية الغربية وتناقضاتها ، فيما لا يتسع المجال لاستعراضه في هذا اللقاء ، ولكني أكتفي بالإشارة إلى بعضها فحسب ...

ففي رسالة بعنوان ( رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي ) يبعث بها أوغست كونت إلى محبوبته ( كلوتيلد دي فو ) يغيّر رأيه في المرأة ومكانتها الاجتماعية تغييراً تاماً. فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه ( ستورات ميل ) فيرى أنه ليس في المرأة أمل ولا خير ، أما الآن فهو يرى المرأة عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه. والسبب في هذا الانقلاب الفجائي من النقيض إلى النقيض هو أنه في الأولى كان يحب امرأة قبلت الزواج منه ، ولكنها خدعته فدفعته إلى محاولة الانتحار ، والالتحاق بمستشفى المجانين حيناً من الدهر ، وفي الثانية أحب فتاة لم يتح له الزواج بها ، لكنها منحته نفسها وأحبته حباً صادقاً.

ونقارن هذا العبث بالموقف الديني من المرأة ... الموقف الثابت الواضح المنبثق عن علم إلهي محيط بتكوين هذا الجنس وخصائصه ووظائفه المناسبة ، فنراه شاسعاً هائلاً ، ونرى الذين يتجاوزونه صوب الأحكام النسبية المتغيرة كأحكام ( كونت ) إياها ، ويريدون أن يتعاملوا على أساسها المتقلب مع المرأة ، يستحقون الرثاء والازدراء !!

وإذا كان موقف ( كونت ) مؤسس واحدة من أشد الفلسفات أهمية وانتشاراً في أوربا يغيّر رأيه بسبب دوافع ذاتية صرفة ، وفي واحدة من المسائل الأساسية في الحياة البشرية : المرأة ، فكيف يرجى لفلسفته أن تمنح اليقين لتلامذتها والمعجبين بها ، بل كيف نفسّر تحوّلها ، وغيرها كثير من الفلسفات البشرية العاجزة إلى ما يشبه الدين الذي ينحني الغربيون لمسلماته ويعتقدون أنه الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه ؟ ألا ينسحب الأمر على معظم الفلسفات والعقائد الوضعية إن لم نجازف فنقل : كلّها !!

وإليك شاهدٌ آخر : كان الدافع الجنسي – يقول أرثر كوستلر – مقرّراً أو معترفاً به ، في بدايات تشكل الاتحاد السوفياتي ، إلاّ أننا كنا في حيرة بشأنه ، كان الاقتصار على زوجة واحدة ، بل كان نظام الأسرة كلّه عندنا من آثار النظام البرجوازي ينبغي نبذه لأنه لا ينمّي إلا الفردية والنفاق والاتجاه إلى اعتزال الصراع الطبقي ، بينما الزواج البورجوازي لم يكن في نظرنا إلاّ شكلاً من أشكال البغاء يحظى برضاء المجتمع وموافقته. إلاّ أن السفاح والاتصال الجنسي العابر كان يعتبر أيضاً شيئاً غير مقبول ، وكان هذا النوع الأخير قد شاع وانتشر داخل الحزب سواء في روسيا أو خارجها ، إلى أن أعلن ( لينين ) تصريحه الشهير الذي يهاجم فيه نظرية ( كأس الماء ) ، تلك التي روّج لها الدكتور الماركسي ( ولهلم رايخ ) والتي تزعم أن العملية الجنسية ليست أكثر خطراً وأثراً من عملية إطفاء العطش بكأس من الماء. من هذا نرى أن الفضيلة البورجوازية كانت تعتبر شيئاً سيئاً ، كما أن السفاح والاتصال الجنسي العابر كان سيئاً كذلك ، أما الموقف الصائب الذي ينبغي أن نتخذه نحو هذا الدافع الجنسي فهو الفضيلة العمالية التي تتلخص في أن الإنسان ينبغي له أن يتزوج ويخلص لزوجته وينجب أبناء عماليين ... وإلاّ أصبح أولاد الروس جميعاً أولاد حرام !!.

سؤال : والعلمانية ضد طبقة رجال الدين ، والإسلام جاء بدعوة التوحيد ومحاربة من يدّعي حقاً إلهياً. وهم لا يعرفون الإسلام بل يعرفون أديانهم المحرّفة وممارساتهم الخاطئة فكيف نتعامل معهم ؟

حقاً إن الإسلام جاء ثورة حاسمة تدعو إلى التوحيد وتحارب أي ادّعاء بالحق الإلهي ... إن شعار ( لا إله إلا الله ) الذي هو نقطة الارتكاز في العقيدة الجديدة ، والذي أصرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على التمسّك به والقتال دونه ... انما هو شعار انقلابي ضد كل قوى الطاغوت والاستلاب والابتزاز والحتميات القاهرة في هذا العالم ... والذين لا يعرفون هذا يدخلون أنفسهم في الأنفاق المظلمة ويصدرون آراء ملفقة ما أنزل الله بها من سلطان ... وهم فضلاً عن ذلك يمزجون بين الخبرة الإسلامية والخبرة المسيحية القادمة من الغرب الذي كبلته تلك الخبرة ومنعته من اكتساب المعرفة العلمية ، والكشف عن حقائق الكون والعالم ، فتمرّد عليها ، وانطلق تلك الانطلاقة العلمية
الكبرى ... أما في الإسلام ، وكما يقول الباحث الإنكليزي المعاصر ( روم لاندو ) ، فان الأمر يختلف ... ذلك أن الغرب لم يفصل العلم عن العقائد الدينية فحسب ، بل فصله عن مفاهيم الايمان والقيود الأخلاقية الملازمة لها أيضاً. أما العلم الإسلامي فلم ينفصل عن الدين قط. والواقع ان الدين كان هو ملهمه وقوته الدافعة الرئيسية. ففي الإسلام ظهرت الفلسفة والعلم معاً إلى الوجود ، لإقامة الدليل على ( الألوهية ) وتمجيدها. ومن هنا فليس عجيباً أن يكون العلم الإسلامي لم يجرد في أي يوم من الأيام من الصفات الإنسانية – كما حدث في الغرب – ولكنه كان دائماً في خدمة الإنسان ... ومرة أخرى فان الحقيقة التاريخية التي لا ريب فيها هي أن المسلمين وفقوا ، طوال خمسة قرون كاملة ، إلى القيام بخطوات حاسمة في مختلف العلوم من غير أن يديروا ظهورهم للدين وحقائقه ، وأنهم وجدوا في ذلك الانصهار عامل تسريع وإنجاح ، لا عامل تعويق وإحباط ...

أما كيف نتعامل معهم ، فهو في توصيل الصورة الصادقة الأمينة لهذا الدين ، خاصةً ونحن في زمن الإعلام السريع ، والعولمة ، التي جعلت من العالم قرية صغيرة ، والفضائيات التي تخاطب في اللحظة الواحدة ملايين الناس ... ولسوف نكون جدّ مقصّرين في حق أنفسنا وحق الآخر إن لم نوظف هذه الفرصة في حدودها القصوى.

لقد قالها القرآن الكريم  {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ( سورة القصص ، الآية 51 ) ، بواسطة رسل الله وأنبيائه الكرام ( عليهم السلام ) ، وعلينا نحن أن نواصل الطريق ، فنوصّل خطابنا الإسلامي إلى سمع العالم وعقله ووجدانه ... وحينذاك سنعرف كيف يفعل هذا التوصيل فعله المدهش ، خاصةً إذا تجاوزنا خطاب بعضنا البعض بلغتنا العربية ، وتحوّلنا إلى خطاب العالم بلغاته الكبرى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية ...

لقد أتيح لي في خريف عام 1997 م أن التقي في كوالا لامبور بماليزيا بالداعية الإسلامي المعروف ( عبد المنعم خفاجي ) الذي كان قد عمل وزوجته في الكويت حيناً من الزمن ، وجمعا مبلغاً من المال فاض عن حاجتهما ، فسافرا إلى ألمانيا لتوظيف هذا المال هناك في قضايا الدعوة ، وعهد الرجل إلى مكتب ترجمة بترجمة معاني القرآن الكريم إلى الألمانية ، وصدرت الترجمة بألفيْ نسخة ، فما لبثت أن نفدت من الأسواق حيث أقبل عليها الألمان يقرأونها بنهم وبعضهم انتهى به الأمر إلى إعلان إسلامه ... وها هو ذا خفاجي يدور في البلدان الإسلامية لجمع مبلغ من المال ، لكي يواصل الطريق فيصدر عدداً أكبر من نسخ الترجمة الألمانية ، ويطمح إلى تنفيذ العمل نفسه مع اللغات الأوربية الأم كالفرنسية والإسبانية والروسية ...

ونحن نستمع ونقرأ يوماً بيوم عن هذا العدد الكبير من نخب الغرب الذين ينتمون
للإسلام ، فكيف لو اتسع نطاق ( توصيل ) الخطاب الإسلامي الأصيل إلى مداه الأقصى في العالم كلّه ؟!

سؤال : من إشكالات العلمانيين على الإسلاميين هو أن تطبيق الشريعة يكون حسب أي مذهب حيث معروف حجم العداء بين اتباع المذاهب إلى حدّ التفسيق والتكفير ، فلا حل إلا بالقوانين العلمانية التي لا تنظر إلى العرق والمذهب بل تعامل الناس بسواسية حيث تعمل بمبدأ الدين للفرد والوطن للجميع ؟

هذه تهمة معروفة ومستهلكة يلقيها العلمانيون على الإسلاميين ، يستمدونها من
تاريخ الفرق الإسلامية ، وليس من الأصول الإسلامية نفسها ، وثمة فرق كبير بين الحالتين ... فأما في الحالة الثانية فليس ثمة سوى إسلام واحد ، وفقه واحد ، وشريعة واحدة ، تعالج كل قضايا الحياة بالحلول التي عجزت المذاهب العلمانية عن أن تبلغ عشر معشارها ... وها هم الغربيون يتطلعون إلى هذا الدين لكي يعينهم على الخروج من حالة الاختناق الربوي التي يعانون منها ، والتي كادت أن تهوي بمقدراتهم الاقتصادية والمالية إلى الحضيض.

هذه واحدة من عشرات ... وتحضرني ها هنا واقعة الأديبة الفرنسية الوجودية ( سيمون دي بوفوار ) مع عشيقها ( جان بول سارتر ) ، التي أعلنت بالحرف " إن المرأة
لا تخلق امرأة بل تصبح امرأة ، فليس هناك مصير بيولوجي أو نفسي أو اقتصادي يحدّد الدور الذي تؤديه أنثى البشر في المجتمع. إن المدنية ككل هي المسؤولة عن إنتاج
هذا الكائن الذي يوصف على أنه أنثوي " ... وانسياقاً وراء نزوعها المضاد للأنثى ، فضلت أن تظل عشيقة لرفيقها ( جان بول سارتر ) لمدى نصف القرن على أن تصير زوجة له ، عندما طلب منها الزواج ، معتقدة أن العلاقة التي تجمعهما كانت أقوى وأهم من " ورقة " تحدد هذه الرابطة !

بل انها اصطرعت مع ( الأنثى ) باتجاه آخر لا يقل خطورة ، فإذا كانت في الحالة السابقة ترفض الرابطة الزوجية التي هي أساس كل علاقة إنسانية بين الرجل والمرأة ، فانها في الحالة الثانية رفضت أن تصير المرأة أمّاً وأن تكون كائناً يحرس استمرارية الحياة بحكم قوانين الفطرة. ففي عام 1971 م وقعت مع 340 امرأة بياناً يفيد بخضوعها لعملية إجهاض تحدياً للقانون الفرنسي آنذاك ... ونقرا في كتاب الباحث الاجتماعي
( واتنبرغ ) بعنوان ( ندرة المواليد ) ما نصّه " أمامنا في الغرب جيل واحد لنفهم المشكلة أولاّ ثم نعكس هذا الانهيار الاختياري في معدلات الخصوبة وإلاّ فسوف ندفع الثمن ... وأياً كان التحليل الصحيح لأثر الظاهرة فبالنظر إلى الانفجار السكاني المستمر
في معدلات المواليد في العالم الثالث ، فربما يمثل سكان دول الغرب تسعة بالمائة فقط من سكان العالم عام 2025 م بالمقارنة مع 15% في الوقت الحاضر و 22% عام 1950 م. ويعزو الخبراء تناقص معدلات الخصوبة في الغرب إلى مجموعة من الأسباب المختلفة ، منها تزايد عدد النساء العاملات خارج البيت ، وتناقص
معدلات الزواج وارتفاع معدلات الطلاق ، وتوفر وسائل أفضل لمنع الحمل ، وإباحة الاطلاق ... ومن بين الدول المتقدمة فان الحكومة الفرنسية هي الأكثر نشاطاً في تشجيع الإنجاب حتى أنها تنشر إعلانات تحمل صورة طفل كتب تحتها ( فرنسا تحتاج إلى أطفال ) ... ".

أي تبديل هذا لخلق الله ؟ وأي منطلق يتناقض ابتداء مع التفرّد المؤكد للمرأة على المستويات البيولوجية والنفسية والاجتماعية ، وهو التميز الذي يؤكده كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ويتعاملان معه من أكثر من زاوية ، ليس من أجل وضع ( الأنثى ) في درجة أدنى من الرجل ، وانما من أجل الاستجابة لطبيعة مطالبها الأساسية ووظيفتها الأولى ، وهو الأمر الذي يجعل المرأة على المستوى الإنساني ، ليس فقط في حالة توازن مع الرجل يكمل من خلاله أحدهما الآخر ، بل ان المرأة قد تحتل موقعاً أعلى من الرجل في كثير من الحلقات الأساسية للحياة البشرية ، كما يلحظ من معطيات هذا الدين في العقيدة والتشريع والسلوك على السواء ... {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } ( سورة النساء ، الآية 27 ).

إن علينا أن نتعامل مع الإسلام في أصوله كتاباً وسنة ورصيداً تشريعياً ، وليس من خلال الفرق الضالة المنحرفة التي عصفت بها المنافع والأهواء ، والتي سبق وأن حذّر منها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أن أمته ستفترق إلى بضع وسبعين فرقة ، إحداها فقط هي الناجية ... ولقد أعطانا الدليل : لقد تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي ...

والآن فان المكتبة الإسلامية المعاصرة التي تنطوي على آلاف الكتب ، تقدّم لنا الصورة الأصيلة الموحدة لهذا الدين المستمد من أصوله ... والتي لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ واشبعتها بحثاً وتنقيباً ... فأي دجل هذا الذي يمارسه العلمانيون بحق هذا الدين ؟

سؤال : دكتور عبد الوهاب المسيري ( رحمه الله تعالى ) من كبار المفكرين ، يؤمن بالعلمانية الجزئية ، هل العلمانية الجزئية ما تتعارض مع الإسلام ، أم ما سماها المسيري ليست العلمانية بل المؤسساتية ، خصوصاً حين يتحدث عن العلمانية الجزئية يستشهد بحديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " ؟

أعرف الدكتور عبد الوهاب المسيري ( رحمه الله ) جيداً ... وقد التقيته في محاضرتين ، إحداهما عام 1990 م والأخرى عام 2001 م ، فهو رغم ميله الملحوظ إلى الإسلامية ، ودفاعه الرائع عن ثوابت هذا الدين وكشفه البانورامي المدهش لخفايا الحركة الصهيونية وأصولها الفكرية والعقدية ، إلا أن شيئاً من العلمانية ظل يعشش في فكره حتى اللحظات الأخيرة ... وقد يفّسر هذا ما ذهبت إليه في سؤالك. فأما حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " فهو ينصب على الأمور الفنية والإجرائية الصرفة ، ولا علاقة له مطلقاً في قضايا العقيدة والتشريع الذي يتعامل مع كل صغيرة وكبيرة في هذه الحياة.

سؤال : الولاء داخل الأمة الإسلامية عقدي في المقام الأوّل ، ولكنا نجد دعاوى تعصّب للقوم لحقتها فكرة الأوطان ، مما أدى إلى تجزئة الأمة الإسلامية وزرع الخلافات بينها. كيف يمكن لم شمل الأمة الإسلامية في وحدة تنظيمية تتوافق مع العصر الراهن وتكون ذات فاعلية في الشأن العام الذي يهم المسلمين جميعاً على المستوى الكوني ؟

من خلال مفهوم الوحدة والتنوّع ، وهو مبدأ أساسي من مبادئ تعامل هذا الدين مع الواقع البشري المتنوّع والمتغاير ... واسمح لي بأن أحدثك عن جانب منه ... فلقد قدّم التاريخ الإسلامي في نسيج فعالياته الحضارية نموذجاً حيوياً على التناغم بين هذين القطبين اللذين ارتطما وتناقضا في الحضارات الأخرى ، ووجدا في الإطار الإسلامي فرصتهما الضائعة للتلاؤم والانسجام.

فالحضارة الإسلامية هي من ناحية ، حضارة الوحدة التي تنبثق عن قاسم مشترك أعظم من الأسس والثوابت والخطوط العريضة ، بغض النظر عن موقع الفعالية في الزمن والمكان وعن نمطها وتخصصها. وهي – من ناحية أخرى – حضارة الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه ، بحكم التراكمات التاريخية التي تمنح خصوصيات معينة لكل بيئة ، تجعلها تتغاير وتتنوع فيما بينها في حشود من الممارسات والمفردات ، تبدأ باللغة وتنتهي بالملابس والعادات.

إنها جدلية التوافق بين الخاص والعام ، تلك التي أكدها القرآن الكريم في الآية  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ( سورة الحجرات ، الآية 13 ) وفي الآية {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ + إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ...} ( سورة هود ، الآيات 118-119 ) وهو يتحدث عما يمكن تسميته بالأممية الإسلامية التي تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم ، ولكنها تسعى لأن تجمعها في الوقت نفسه على صعيد الإنسانية. وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الشيوعية التي سعت – ابتداءً – وبحكم قوانين التنظير الصارمة إلى إلغاء التنوع ومصادرته ، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم القدرة على تنفيذها تاريخياً بمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي ( المنحلّ ) ، حتى قبل حركة ( البرسترويكا ) ، والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الشيوعية من قبل حشود الأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة ، فيما حدثتنا عنه المؤلفة الفرنسية الخبيرة بشؤون الاتحاد السوفياتي هيلين كارير دانكوس في كتابها القيّم
( القوميات والدولة السوفياتية ). ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها الواحدة وأهدافها المشتركة ، تتبين مصداقية المعالجة الإسلامية لهذه الثنائية كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بنفس القدرة من الواقعية في الرؤية والمرونة في العمل.

لقد شهد عالم الإسلام أنشطة معرفية متمايزة وثقافات شتى على مستوى الأعراق
التي صاغتها ، عربية وتركية وكردية وفارسية وهندية وصينية ومغولية وزنجية وإسبانية ... الخ ، كما شهد أنماطاً ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم : عراقية وشامية ومصرية ومغربية وتركستانية وصينية وهندية وإفريقية وشرق أقصوية وأوربية شرقية وإسبانية وبحر متوسطية ... الخ ... وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها الاجتماعي والمعرفي بحرية ، وتعبر من خلاله عن خصائصها ، وتؤكد ذاتها ، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية ... بدءً من قضية اللغة والأدب وانتهاءً بالعادات والتقاليد ، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة. ولم يقل أحد أن هذا خروج عن مطالب الإسلام التوحيدية ، كما أن أحداً لم يسع إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فان أياً من هذه المتغيّرات لم تتحول – إلاّ في حالات شاذة – إلى أداة مضادة لهدم التوجهات الوحدوية الأساسية لهذا الدين.

سؤال : برأي طه عبد الرحمن ، بلغ تعلّق النقاد العرب بالحداثة الغربية أن توهموا أنها واقع لا يزول ، وحتمية لا تحول ، وأنها نافعة لا ضرر فيها ، وكاملة لا نقص معها ، فحجبهم هذا التعلق عن أن يتبينوا ما في كتابه " سؤال الأخلاق : مساهمة في
نقد الحداثة الغربية " : من أصول أخلاقية مصححة لمسار هذه الحداثة ، لم يقلد فيها أحداً ، ثم كتب " روح الحداثة : مدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية " ... ويريد أن يتبنى الحداثة الإسلامية ... ما رأيك بهذا المصطلح ؟

للدكتور طه عبد الرحمن القول الفصل في نقد الحداثة الغربية ، وهو – بحق – فارسها الأوّل في جلّ ما أنجزه من مؤلفات في غاية القيمة ... أما تعبير ( الحداثة الإسلامية ) فهو مجال الأخذ والردّ وكأنه نوع من ملاحقة مستجدات العقل الغربي ... وبما أن
هذا العقل - بسبب من عدم تلقّيه الثوابت اليقينية المطلقة من السماء – قد ضلّ به الطريق ، وأخذت حداثته نفسها تتعرض لنكسات خطيرة ، بحيث اخذت موجاتها المتعاقبة يضرب بعضها بعضاً ويطرد بعضها بعضاً ... التفكيكية وما بعد التفكيكية ، والسيمائية وما بعد السيميائية ... و ... و ... ولا ندري أين سينتهي بهم المطاف ... فما دام الأمر كذلك فلماذا نقتبس عناوينهم المتغيرة ، ولا نلجأ إلى نحت عناويننا من القاموس الإسلامي نفسه الذي لا يبخل علينا مطلقاً بأية محاولة للتجديد ؟

سؤال : لماذا لم تكتب كتاباً عن الحضارة الإسلامية تستجوب مطالب قلوب المؤمنين ومطاعن الملحدين ؟

كلا ... فقد ألفت كتاباً عن الحضارة الإسلامية ، وصدر عام 2005 م بعنوان ( مدخل إلى الحضارة الإسلامية ) وضعت فيه خبرة خمسين عاماً من القراءة والتدريس والتأليف والإشراف على رسائل الدراسات العليا ومناقشتها وأردته أن يكون كتاباً منهجياً يدرس في الجامعات الإسلامية ... ولحسن الحظ فقد اعتمدته بعض الجامعات ، فضلاً عن أن مؤسسة ( أراميكس ميديا ) في الأردن عدّته واحداً من أفضل خمسة كتب في العالم لعام 2005.

والمشكلة – باختصار – ليست مشكلتي ، انما مشكلة الناشرين الذين لا يعرفون كيف يغطون المنطقة العربية والإسلامية ، بما يصدرونه من كتب ، فتظل في كثير من الأحيان أسيرة حيّز إقليمي ... ومع ذلك فان معارض الكتاب الدولي ، بما في ذلك المعرض الذي تشهده أربيل في ربيع كل سنة ، يتلقى شيئاً من هذه الإصدارات.

سؤال : انك متخصص في التاريخ الإسلامي ولكن نرى في كتاباتك أنك تستخدم أسلوباً فكرياً أكثر من السرد التاريخي ... فلماذا ؟

ذلك أن عرض الحدث وحده لا يكفي ، ولابّد من الذهاب إلى ما وراءه ، من خلال أعمال الفكر في وقائعه ، للوصول إلى دلالاته الحقيقية.

سؤال : ما هو مشروعكم حول إعادة جديدة للتاريخ الإسلامي ؟

سبق وأن قدمته في كتابي ( حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ) الذي صدر في ثمانينيات القرن الماضي ، وأعقبته بكتاب ( مدخل إلى التاريخ الإسلامي ) الذي صدر عام 2005 م عن المركز الثقافي لعربي في الرباط ، والدار العربية للعلوم في بيروت.

سؤال : هل يصحّ لنا أن نسمي تاريخ المسلمين بتاريخ الإسلام ؟ كما نرى في كتاب
( تاريخ الإسلام ) للذهبي ؟

كلا ... فتاريخ المسلمين بما ينطوي عليه من حلقات الإيجاب والسلب ، هو غير تاريخ الإسلام باعتباره ديناً موحى به من السماء لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه.

سؤال : هل ترون الدولة العثمانية دولة إسلامية وجزءً من الخلافة الإسلامية ؟ بينما يرى بعض دعاة ومؤرخي العرب ان الدولة العثمانية ليست امتداداً لخلافة الإسلامية.

الدولة العثمانية هي دولة إسلامية وجزء من الخلافة الإسلامية ... ودعنا من
دعاة ومؤرخي العرب الذين لا يرونها كذلك بسبب من رؤيتهم القومية المحدودة ... وعلى ما مارسته من أخطاء ، فقد كانت دولة الجهاد والفتح ، والسدّ الذي وقف بقوّة إزاء محاولات أوربا الصليبية لتدمير عالم الإسلام وتفكيك وحدته ... أما موقفها من الصهيونية ، ودفاعها عن الأرض الفلسطينية فقد كان أحد اسباب التآمر عليها وتصفيتها من الوجود ... ناهيك أن دستورها كان مستمداً من شريعة الإسلام ، قبل اختراقه بما يسمى – خطأ – محاولات الإصلاح الفاسدة التي أعانت على تفكيك هذه الدولة.

سؤال : مسعود محمد من الذين كتبوا عن تفسير التاريخ ، وسمى كتابه ( وجهة نظر في التفسير البشري للتاريخ ) ... هل لك علاقة شخصية به ؟ وما رأيك بكتاباته وبنظرته للتاريخ ؟

لا علم لي بالرجل ولا بكتاباته ... وسأحاول أن أحصل على كتابه إن شاء الله ...