حول المضمون الفكري للأدب الإسلامي المعاصر
بقلم : أ. د. عماد الدين خليل
ـ المقدمة ـ
يثير الحديث عن المضمون الفكري للأدب الإسلامي المعاصر جملة من القضايا والإشكاليات التي يصعب التعامل معها منعزلة عن بعضها بسبب ارتباطها الوثيق. فهناك ظاهرة ( المذهب الأدبي ) الذي يعكس رؤية أو تصوراً فكرياً ، وهناك قضية ( الالتزام ) المتجذرة في الرؤية الفكرية ، وهناك ثنائية الحداثة والتراث وانعكاساتها الفكرية وما تتطلبه من توازن وإلا جاء ذلك على حساب العمل الأدبي ، وهناك ـ فضلاً عن هذا وذاك ـ مسألة
( المنهج ) ومنطلقاته الفكرية ، وصولاً إلى إشكالية الأديب والفقيه وما تنطوي عليه من خلفيات فكرية.
سيتابع البحث ـ وبالإيجاز المطلوب ـ المحاور الأساسية لقضية المضمون هذه لكي يخلص في نهاية الأمر إلى مطالب أسلمة الأدب أو التأصيل الإسلامي للأدب والذي يأتي في سياق إعادة صياغة وبناء المعطيات المعرفية الإنسانية من زاوية المنظور الإسلامي للكون والحياة والوجود والمصير.
1 ـ المذهب والمضمون الفكري
من المعروف أن المذاهب الأدبية كافة ( فيما عدا البرناسية بطبيعة الحال ) تحمل وتبشّر بمنظومة من القيم التصوّرية ، كل وفق الشبكة التي تؤسس لذلك المذهب. وإذا كان الأمر غائماً بعض الشيء في الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة وربما الرومانسية ، فانه واضح تماماً في الواقعية والواقعية الاشتراكية والرمزية والوجودية ، والمذاهب التالية كالسريالية والعبثية ( الطليعية ) ، وتيارات الحداثة المتدفقة التي يضرب بعضها بعضاً ولا يزال.
في حالة كهذه ألا يحق للأدب الإسلامي أن ينطوي على مضمونه الفكري بما أنه ينبثق عن العقيدة الأوسع فضاء ، والأغنى خبرات ، والأغزر مفردات وعطاء باعتبارها إضاءة متفردة يلتقي فيها الوحي بالوجود وتتلقى تعاليمها من الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وتفتح جناحيها على الإنسان والعالم والكون والمصير ؟
ان الخبرة الإسلامية في أعمق مجاريها الإيمانية خفاء ، وأكثر تجلياتها الفكرية إشراقاً ، تضع بين يدي الأديب والفنان ثروة هائلة من المفردات ، وشبكة عريضة من التجارب والرؤى والتأسيسات التي يمكن للأديب أن يستمد منها مدماكه في هذا الجنس الأدبي أو ذاك.
وأن المساحات التي تنسج فيها المضامين الفكرية للمذاهب الأدبية كافة لتتضاءل أمام الفضاء الواسع ، والسماء الكبيرة والمفتوحة للمعطى الرؤيوي الإسلامي الذي لا حدود لشواطئه.
إن المرء ليتذكر هنا عنوان كتاب للمفكر الفرنسي ( رجاء غارودي ) ( واقعية بلا ضفاف )([1]) ، وان المضمون الفكري للأدب الإسلامي الذي يتعامل مع الواقع ولا ينفصل عن همومه وقضاياه بحكم ضرورات الالتزام ، لا يأسره الواقع الضيّق الذي تعارف عليه الناس ، ولكنه ينطلق إلى فضاءات الخبرة والرؤية اللتين لا أوّل لهما ولا انتهاء.
بل إن الإسلام ، برؤيته الكونية ، واستشرافه بعيد الآفاق ، ونزوعه الشمولي ، وتوازن الثنائيات في نسيجه : بين ما هو منظور وغيبي ، وطبيعي وميتافيزيقي ، ومادي وروحي ، وثابت ومتغير ، ومحدود ومطلق ، وفانٍ وخالد .. الإسلام بهذا كله أقدر ، إذا تهيأت له الأدوات الفنية المتمرسة والخبرة العميقة ، على إيداع أدب عالمي يهمّ الإنسان في اطار المعمورة ويمكن أن يفرض ترجمته إلى كل لغة حية.
ولكن ، وكما تؤكد القاعدة النقدية المعروفة ، فان العمل الأدبي الكبير لا يحقق عالميته وانتشاره إلا من خلال أصالته وخصوصيته ، أي من خلال تحركه من الخاص المحدّد إلى العام المفتوح ، كي لا يغدو عملاً تجريدياً ، وكي يكسب ملامحه وتكوينه الحيوي ، ونسيجه ذا اللحم والدم والملامح المتفردة.
إن إحدى وظائف الأدب الإسلامي ، بل وظيفته الأم ، إلى جانب وظائفه السياسية والاجتماعية والنفسية والتاريخية والتربوية ، هي الوظيفة العقدية التي تستهدف إيصال الخطاب الإسلامي إلى المتلّقي بأكبر قدر من التأثير .. إن الأديب ها هنا يحمل سلاح الكلمة لكي يقف في صف الدعاة .. واحداً من أكثرهم قدرة على الفاعلية والكسب والامتداد .. إنه يقوم بتوصيل رؤية الإسلام للكون والحياة والعالم والإنسان ، لا بمفاهيم تجريدية ، وأفكار صارمة ، ومقولات قاطعة كالسكين ، ولكن بالصورة المشخصة ، والتجربة المعيشة ، والخبرة التي يجري الدم في خلاياها وشرايينها فيبعث فيها الحياة.
إنه من خلال التجربة الحيوية ، وبموازاة مقولات الفقه واستنباطاته ، يقول للناس هذا حلال وهذا حرام ، وبواسطتها يخرج بهم من الطرق الملتوية إلى الصراط .. إن معطيات هذا الدين ، بما تنطوي عليه من مضامين فكرية ، يمكن أن تركب إلى الناس ألف مركب في كل زمان ومكان .. ولكن ليس كمركب الفن المؤثر الجميل من يقدر على فتح منافذ الوجدان البشري لكي تستقبل هبة اليقين الذي جاء به الإسلام ، هنالك حيث يتوحد الإنسان وينسجم ويتوافق مع الموجودات على مدى الكون الفسيح.
إن الأديب وهو يمارس عملية تشكيل الكلمات وصياغتها وهندستها ، للتعبير عن هذا الجانب أو ذاك من الحياة الإسلامية ، ولتوصيل هذا المضمون الفكري أو ذاك من عقيدة الإسلام للآخرين ، انما يمارس وظيفة من أخطر وظائف الأدب على الإطلاق. ولنتذكر كيف أن التواصل لن يتحقق بصيغته الفاعلة المرجوة إن لم يضم جناحيه على طرفي الإبداع : الجمال والتأثير ، وإلا وقع في مستنقع المباشرة والتقرير.
كل الوظائف الأخرى المشار إليها يمكن أن تندرج تحت ظل هذه الوظيفة الكبرى ما دام أنها روافد تتجمع لكي تصب في نهاية المطاف ، في بحر العقيدة الواسع العميق. ولن يكون من المحتوم على الأديب المسلم أن يقصر همومه على عرض القيم والمضامين الفكرية في معطياته .. بل يكفي أن يهدم عقائد الوضّاعين ومذاهبهم وتصوّراتهم .. يكفي أن يكشف عما تتضمنه من كذب وزيف والتواء .. يكفي أن يحكي عن مردودها على الإنسان ألماً وتعاسة ونكدا وشقاء ، لكي ما يلبث أن يتضح للناس أن البديل الوحيد .. البديل الحق ، هو الإسلام وحده.
إن وظيفة الأدب العقدية تمتد وتتسع لكي تنفسح على مدى رؤية الإسلام وتصوره الشامل للكون والعالم والإنسان ، وهو تصور يتفرد بامتداده وعمقه وانتشاره فيما يمنح الأديب ألف فرصة وفرصة للتعبير المؤثر الجميل .. إنه تصور يسعى للتحقق بأكبر قدر من الوفاق والتناغم بين الإنسان والوجود ، وإنشاء إيقاع موحد بين سائر الأطراف التي يحتويها الكون ويضم جناحيه عليها .. إن الأديب يجد نفسه هنا في ساحته الحقيقية المترعة المشحونة ، وهي ـ بحق ـ أكثر الساحات قرباً من حقيقة الإبداع الجمالي ، وبعداً ـ في الوقت نفسه ـ عن المباشرة والتسطح والتقرير.
إن قلم الأديب المسلم يمكن أن يتحدث عن كل شيء ويكتب عن كل تجربة ويعبر عن كل صغيرة أو كبيرة في مجرى الحسّ والشعور والوجدان ، أو في شبكة العلاقات الاجتماعية والبشرية ، أو في ساحة الطبيعة والعالم ، أو في منظومة الأفكار عبر مضامينها كافة.
إن تحديد أو وضع قائمة بالموضوعات التي يمكن أن يتحدث عنها الأدب الإسلامي ، أو يلامسها ويعيشها ، أمرٌ في غاية الصعوبة ، بل إنه لموقف مفتعل يسعى إلى قولبة التجربة الكبيرة في إطارات تضيّق عليها الخناق.
وثمة ما يرتبط بالجانب العقدي ، إنها الوظيفة ( الاجتماعية ) ، فالأدب الإسلامي مدعو لأن يبذل قصاراه لاغناء التجربة الاجتماعية الإسلامية ، وحمايتها وتحصينها ضد عوامل التفكك والتحلل والتغرّب والفناء.
إن ما تبقى لمجتمعاتنا الإسلامية عبر رحلة التاريخ الطويلة ( بقايا ) مما أراده دين الله لهذه الأمة كي تتوحد وتسعد ، وكي تكون لها ( المكانة الوسط ) التي أرادها لها الإسلام ..
لقد نقضت هذه المجتمعات مطالب عقيدتها وتقاليدها عروة عروة .. تآمر عليها المتآمرون لتحقيق هذا الانسلاخ .. نعم .. ولكن تآمرها على نفسها بالجهل والإغراء والضعف وعدم اتقاء الفتنة كان أكبر بكثير. ومع ذلك كله ، فانها تملك بحمد الله وقوة هذه العقيدة بعض ما أراد لها الإسلام أن تكون عليه ، وانه ليتحتم علينا أن نكافح في الباطن والظاهر من أجل حماية هذا الذي تبقى ، وتحصينه ، وتعميق جذوره في النفوس والآفاق.
وإن الأديب هو واحد من المدعوين لممارسة المهمة الخطيرة بفنه القادر على التأثير والتحصين ، بل إنه مدعو إلى أكثر من هذا .. إلى دعوة المجتمعات الإسلامية لاستعادة ممارساتها الأصيلة ، وقيمها المفقودة ، وتكافلها الضائع ، وتقاليدها الطيبة ، وإحساسها المتوحد ، وصبغتها الإيمانية التي أبهتتها رياح التشريق والتغريب.
إن الأديب المسلم ببنائه النماذج الاجتماعية المرتجاة ، وبهدمه البدائل القبيحة التي غزتها وإزاحتها ، انما يمارس مهمة مزدوجة تنضفر في نهاية المطاف لكي تؤدي وظيفتها الاجتماعية على أحسن ما يكون الأداء.
إن صورة المجتمع الإسلامي المنشود يمكن أن تجلّيها للناس ، وتدعوهم إليها في الوقت نفسه ، قصة أو قصيدة أو مسرحية أو رواية أو مقال. وإذا كان ( فانتيلاهوريا ) قد تحدث عن مجتمع مسيحي ، و ( جدعون ) عن مجتمع يهودي ، و ( باسترناك ) عن مجتمع ( ليبرالي ) و ( غوركي ) عن مجتمع شيوعي و ( كامي ) عن مجتمع وجودي و ( ميتشل ) عن مجتمع رأسمالي و ( مورافيا ) عن مجتمع منحلّ ، فانه قد آن الأوان لكي يبرز أديب ، بل أدباء إسلاميون ، لكي يتحدثوا لنا عن مجتمع إسلامي ، ويقصوا على العالم من أنبائه وملامحه التي لم يعرفها قط مجتمع من المجتمعات.
لن يتسع المجال للحديث عن الوظائف الأخرى التي تنطوي على بعدها
الفكري وبخاصة الوظيفتين النفسية والتربوية .. والمهم أن الأديب المسلم يتحتم أن يعتمد
( الإسلامية ) في تعبيره من أجل أن يكون صدوره منطقياً ومنسجماً مع ما يؤمن به ويعتقده.
ويقيناً فان ( الإسلامية ) هي غير ( الكلاسيكية ) أو ( الرومانسية ) أو ( الكلاسيكية الجديدة ) أو ( الواقعية ) أو ( الطبيعية ) أو ( الواقعية الاشتراكية ) أو ( الرمزية )
أو ( السريالية ) أو ( الطليعية ) أو ( المستقبلية ) .. الخ .. إنه مذهب متميز ، قد يلتقي مع هذا المذهب أو ذاك لقاءً جزئياً ، ولكنه يبقى مذهباً أدبياً إسلامياً مستقلاً ، لأنه في الأصول والكليات لا يمكن بحال أن يلتقي مع أي من المذاهب الأخرى .. إنه إذا حدث أن تم لقاء ما في " ألشكل " فانه يندر على مستوى " المضمون " و " المذهب " عموماً.
إن نقاط الخلاف أكبر بكثير وأعمق بكثير من نقاط اللقاء .. فها هنا ينبثق المذهب الإسلامي في الأدب عن رؤية تصدر عن الله سبحانه الذي أنعم على البشرية بالدين القيّم : الإسلام .. وهناك تنبثق المذاهب الأدبية عن رؤى بشرية وضعية قاصرة تتضمن الكثير من المناقص والأخطاء والثغرات والأحكام النسبية والاختلال والتطرف والشذوذ.
وإذا كان هذا الأمر لا يتضح على مستوى الشكل بحكم حياديته في كثير من الأحيان ، فانه يبدو بالوضوح الكامل على مستوى المضمون ، وما دام المضمون يتلبّس ( المذهب ) ويدخل في صميم نسيجه ، فان التباعد بين ( الإسلامية ) والمذاهب الأخرى يصبح أمراً محتوماً إلا في حالات عرضية لا تصلح أن تكون قاعدة يقاس عليها.
ويكاد ( محمد قطب ) يتفرد بذلك الطرح الموسع لملامح التصوّر الإسلامي التي
ينبثق عنها المذهب الإسلامي في الأدب والفن عموماً ، وذلك في كتابه القيم ( منهج الفن الإسلامي ) ([2]) فمن خلال فصوله التالية على وجه التحديد يضع الرجل ، أو يحلل بشكل
أدق ، الأسس الفكرية التي يقوم عليها تميز البنيان الأدبي الإسلامي وتفرده عن سائر المذاهب الأدبية الأخرى : طبيعة التصور الإسلامي ( حقيقة الالوهية والكون والحياة ) ([3]) ، الإنسان في التصوّر الإسلامي([4]) ، الواقعية في التصوّر الإسلامي([5]) ، العواطف البشرية ( وبخاصة الجنسية ) في التصور الإسلامي([6]) ، الجمال في التصور الإسلامي([7]) ، القدر في التصوّر الإسلامي([8]) ، حقيقة العقيدة في التصور الإسلامي([9]). وفي فصل ( الفن الإسلامي : حقيقته ومجالاته ) يقوم المؤلف بتجميع الخطوط العريضة المفروشة في الفصول السابقة ، لكي يخرج منها بصورة شاملة للفن الإسلامي([10]).
وتزداد الهوة اتساعاً في المذاهب الأكثر حداثة ( وبخاصة البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية .. ) حيث تمارس الرؤية الفكرية في بنيانها ومعطياتها دوراً كبيراً.
وبمجرد إلقاء نظرة سريعة على أي عمل أدبي واقعي ، أو طبيعي ، أو واقعي
اشتراكي ، أو سريالي ، أو طليعي ، أو حداثي فاننا سنجد أنفسنا إزاء تيارات تتدفق في معظمها باتجاه مناقض لمجرى القيم والرؤية والتصوّر الذي ينبثق عن الإسلام ، وهذا يؤكد ضرورة أن يكون للإسلاميين مذهبهم الأدبي المتميز ، وألا يلتفتوا ذات اليمين وذات الشمال طالبين المعونة من هذا المذهب أو ذاك ، اللهم الا بقدر ما يمكنهم ذلك من أدواتهم الفنية ، ويزيدهم قدرة على ( التعبير الجمالي المؤثر ) للتصور المتفرد الذي يحملونه ، أو التجربة الخصوصية التي يعيشونها أفراداً وجماعات.
إن رفض تسمية ( الإسلامية ) ، أو إلحاقها بأي من المذاهب الأدبية المعروفة ، لا يعني البتة الانغلاق والتشنج وعدم الانفتاح على معطيات الآخرين شرقية كانت أم غربية .. ولابدّ ، إذا أريد للأدب الإسلامي أن يزداد نموّاً ونضجاً واكتمالاً ، وأن يزداد تأصّلاً في الوقت نفسه ، أن ينفتح ما وسعه الجهد ، وأن يتابع المعطيات الأدبية في العالم كله ، يوماً بيوم وساعة بساعة ، وأن يأخذ ما وسعه الجهد على مستوى ( التقنية ) ، بل حتى على مستوى المضامين شرط الا يدخل في مجراه النقيّ ، المتفرّد ، العميق أي جسد غريب قد ينقل إليه عدوى هذا الوباء أو ذاك مما يكتسح فكر الغرب ورؤاه وتصوّراته.
2 ـ الالتزام
كيف يتم الربط بين الركنين الأساسيين للعمل الأدبي : ( التعبير الجمالي المؤثر )
و ( التصوّر الإسلامي للوجود ) ؟ ما هي طبيعة الخيط الذي سيشدهما إلى بعض ويمكن الأديب المسلم من تقديم أعماله الإبداعية على المستويين الجمالي والفكري معاً ؟
هنا يأتي دور ( الالتزام ) .. والالتزام ليس نظرية جديدة لكي يقال اننا ندعو إلى
تقليد الغير .. ورغم أن الأخذ عن الغير ليس خطأ بحد ذاته ، بل العكس هو الصحيح ،
إذ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ، رغم هذا فان الدعوة إلى الالتزام
واعتباره ( الوسيط ) الضروري والطبيعي في الوقت نفسه ، بين الجمال والفكر ، بين الإبداع والتصور ، هذه الدعوة انما تستمد مقوّماتها من القرآن الكريم نفسه ، ومن السنة النبوية قولاً وعملاً ، فضلاً عن السوابق التاريخية لجيل الصحابة والروّاد ومن تبعهم بإحسان.
إننا نقرأ في كتاب الله : ) وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ # أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ # وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ # إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (([11]) فنجد أنفسنا إزاء دعوة صريحة واضحة للالتزام. فها هنا يبدو ( الشعر ) الذي لا يلتزم خط الإيمان والحركة والفعل ، شعراً كاذباً ، شعراً لا يملك ثقلاً نوعياً وشخصية مستقلة ، وأصالة ذاتية تجعله يقف شامخاً في مواجهة الناس ، حاضراً في عقولهم وشعورهم وأرواحهم .. شعراً يبلغ من تفلّته من الرؤية الفكرية ، وهروبه من القضايا الأساسية التي تهم الإنسان ، أن يخف ويخف حتى تطيش به الموازين ، وحتى يتنقل من مكان إلى مكان دونما توجه محدّد وهدف واضح. لا يستقر على حال ، ولا يحفظ لقيمة من القيم حرمتها وديمومتها .. إن شعراً كهذا قد يمدح اليوم ما كان قد هجاه بالأمس ، وقد يهجو غداً ما كان قد مدحه اليوم .. ذلك معنى أن شعراء كهؤلاء ( يهيمون ) ( في كل واد ).
إن الشعر حصان جموح ، لن يسلس قياده إلاّ للقلة الفذة .. إنه تدفق عفوي يند عن سيطرة العقل وأحكامه .. تخلّق ذاتي يجيء من وراء أبواب الرسم والإرادة والتخطيط .. إنه عالم بذاته ولذاته .. ومن ثم قد لا نستغرب إذا طالعنا رأي ( سارتر ) المعروف بأن العطاء الشعري عطاء غير ملتزم ، وبقدر ما يتاح الالتزام في ساحة النثر ، فانه في ميدان الشعر يصعب ، بل يستحيل([12]) !
والشعر الأصيل ، كواحد من الأنواع الأدبية الرئيسية ، هو الشعر ذو الشخصية ، الشعر الذي يحمل وظيفة كبيرة ويدعو إلى فكرة كبيرة ويدافع عن عقيدة كبيرة ، وإلا فانه الهيمان ، والتفكك ، والتبذل ، والانحلال.
ويستطيع المرء ، بمجرد إلقاء نظرة على حشود الشعراء عبر تاريخ البشرية ، أن يلتقي بعدد جمّ منهم ، ما كان شعرهم بأكثر من نزوة عابرة ، وصدور عن رؤية موقوتة ، وامتداد لمصلحة قريبة .. لقد هزّ كثير من هؤلاء مستمعيهم وأطربوهم نعم .. ولكنهم فقدوا بمرور الوقت قدرتهم على التأثير ، لأن الشعر القدير على التأثير الدائم ، والحضور المتواصل ، هو الشعر الذي يحمل الأفكار الكبيرة.
وهكذا توجه الآيات القرآنية حملتها التي لا هوادة فيها ضد الشعراء ، ولكنها ما تلبث أن تستثني منهم أولئك الشعراء الملتزمين ( الذين آمنوا .. وانتصروا من بعد ما ظلموا ) .. هنالك حيث تتحول الكلمة المبدعة إلى سلاح يقاتل به المؤمنون ، وحيث يغدو الإبداع فعلاً وممارسة وسلوكاً.
إنه من هندسة الشاعر المؤمن المرسومة ، لكلماته وتعابيره وأفكاره ومضامينه
وصوره وأخيلته وتراكيبه .. من قدرته على تطويع التجربة المتدفقة من وراء الوعي والشعور والتعقّل .. من تمكنه من ليّ عنقها واستخدامها لما هو أكبر : رؤيته الدينية الشاملة ، وإيمانه العميق .. من هنا يبدو تألق الدور الذي يمارسه ، ليس على مستوى الشعر
الإسلامي ، وحده ، بل على مستوى الشعر العالمي كله.
إن الشاعر المؤمن يقاتل جاهلية عصره .. والشعر المقاتل يكون ملتزماً بالضرورة ، لأن المقاتل الحق لا يحمل إلى المعركة سلاحاً لا يعرف كيف يطلق منه رصاصة أو سهماً.
إن معركة الشعر الملتزم هي معركة شعراء كبار عرفوا كيف ينحتون الكلمة ، وكيف يضربون بها الأهداف.
ليس ثمة فوضى أو تخبط .. ليس ثمة ضرب في غير ما هدف على الإطلاق .. إن الشاعر المؤمن يعرف كيف ينظر إلى العالم وهو يكتوي بحرّ التجربة الملتهبة ، فلا ينصهر ويخرج عن دائرة الالتزام .. يعرف كيف ينظر من نافدة المنظومة الفكرية التي انتمى إليها ، كيف يطل على العالم من فوق .. من المكان العالي الذي رفعه إليه الإيمان ، هنالك حيث يرى جيداً المسالك والمنعرجات والدروب .. حيث يرى مساحات الضوء وبقع الظلام ، وحيث يعرف خارطة الأشياء فلا يتردد ولا يتأرجح ولا يهيم ..
إن الآيات القرآنية الآنفة تتضمن ـ إذن ـ دعوة صريحة واضحة للالتزام ، ولكنه يتحتم أن يكون التزاماً ( مرنا ) ، وإلاّ فهو القيد الذي يغل العمل الأدبي ، والجدار الذي يقف في مواجهة الإبداع ، والتيبّس الذي يميل بالمعادلة الأدبية عن سويتها المطلوبة ، ويجنح باتجاه التقرير الفكري على حساب القدرة الإبداعية.
إنه يتحتم أن يكون الالتزام عفوياً ، متساوقاً ، منساباً ، وألا تقوم علاقته بالإبداع
الفني على القسر والتكلف والإكراه ، وألا يعترف بالمدرسية أو التقريرية أو المباشرة ..
علاقة عفوية متدفقة تذكرنا بعلاقة العيون الزرقاء بما تتدفق به على الحقول العطشى من ماء فرات .. بعلاقة التربة الطينية الخصبة الحمراء بما تغطي به وجه الأرض من بحار لا حدود لها من السنابل الخضر .. بعلاقة البحر الهادئ والريح الرخاء بالمراكب التي تبحر فجر كل يوم صوب ما قسم الله لها من أرزاق .. بعلاقة قرص الشمس القاني بأشعته الدفيئة ، وكرة القمر الشفقية بنورها الواني .. بعلاقة الأم بوليدها ، والأرض بمعطياتها ، والسموات بما تشعه من أنوار.
أي قسر هنا ، أو تعسّف أو إكراه ؟ أليس هو الوفاق والتناغم الذي يحيل كل شيء إلى لحن جميل ؟ ما الذي يجعل الطبيعة تتساوق مع معطياتها وتنسجم وتذوب ؟ أليس هو الناموس الذي يسير به الله ـ الصانع المبدع ـ خلائقه جميعاً ؟
ومن قال أن الإسلام ليس هو هذا الناموس ، وهذا القدر الكبير الذي يفجّر المياه من العيون ، والسنابل من التربة الطينية ، والأشعة الدفيئة من الشمس ، والأحلام من القمر ، والذي يخرج الأجنة من البطون ، ويسير المراكب بالريح الرخاء ، ويغطي الأرض والسماوات بزينة إلهية من كل نوع ومن كل لون ؟ ومن قال أن الأديب المسلم ليس هو هذه العين المائية ، أو هذا الحقل الأخضر ، أو ذلك البحر وتلك الريح ؟ ومن قال أنه ليس تلك الشمس أو ذلك القمر ؟ ومن قال ان قصائده وقصصه ومسرحياته وملامحه لا تتفجر عنه ، عن قلبه وعقله ووجدانه وروحه ، تماماً كما تتفجر المياه من العيون ، والسنابل من الحقل ، والأشعة من الشمس ، والأحلام من القمر ؟ أليس هو والطبيعة من مخلوقات الله ؟ وماذا قال لنا الله في كتابه العزيز ؟ ألم يقل لنا : إنه ما من شيء في السماوات والأرض إلا ويسبح بحمده ؟ وأن السدم في مداراتها الكبرى ، والذرات التي لا ترى في مساراتها الصغرى ، والملائكة والحيوان والنبات والأشياء والموجودات تسبّح جميعاً بحمد الله ؟
فإذا تساوق الإنسان مع سائر الخلائق ، وسبّح في كلماته بحمد لله ، أيكون قد خرج
عن الناموس ؟ أيمكن وصف هذا التناغم ، وهذا التآلف بين الخلائق جميعاً بأنه قسر وتكلف وإكراه ؟
إن التزام الأديب المسلم بتألقّ مشعاً في كل جزئية من جزئيات عمله الأدبي .. لنقل أنه الدم الذي يتفجر في أوردة كلماته وشرايينها .. ينبثق عفوياً صافياً حلواً من باطنها ، ويتخلّق معها ، لأنه يصدر عن الأديب الذي يعيش التجربة ولا يدّعيها .. وفرق كبير بين أن يأتي الالتزام من فوق لكي يضبط التجربة بقالبه الصارم ورؤيته الحادة ، وبين أن يتدفق من باطن التجربة ، ويجري في أوصالها وهي تتشكل كما يجري الدم النقي في شرايين الأجنة فيهبها الحركة والحياة.
هذا ـ إذن ـ هو المنظور الإسلامي للالتزام ، تصوّر لا يتحرك الأديب إلاّ على هديه وبنوره .. وحسّ وجداني مفعم يمنحه فرصة الوفاق مع الكون والعالم والوجود .. وبين هذا وذاك يبدو الأدب الإسلامي كالينبوع الذي لا ينضب ، وكنور الشمس والقمر اللذين لا يكفان عن إرسال الضوء والنور ، وكالأرض الخصبة التي لا تتوقف عن بعث الحياة والجمال على سطح الأرض .. وبين هذا وذاك يتدفق الأدب الإسلامي شعاعاً وردياً ـ حيناً ـ يغني للتناغم والتآلف والانسجام ، وينصب ـ حيناً آخر ـ ناراً تحرق الدنس والشوائب والصغار ، وأحياناً ثالثة يتفجر حمماً تقذف وجوه الطواغيت وتلوي أعناق الذين يعبّدون الناس للناس من دون الله.
ولنرجع إلى معطياتنا التاريخية في مجال ( التعبير الذاتي ) و ( الإبداع الفني ) بدءً من عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وطيلة عصر الراشدين ( رضي الله عنهم ) لكي نجد كيف أن دولة يحكمها الإسلام ، ويلزم أبناءها بالصدور عن عقيدته ، تفتح صدرها ـ في الوقت نفسه ـ بالمرونة التي تستحق التقدير والإعجاب ، لنمو القدرات الذاتية في شتى مناحي الإبداع الشخصية والفنية ، وترفض بصرامة ـ تستحق التقدير والإعجاب أيضاً ـ أن تحيل الناس جميعاً إلى أرقام متشابهة في جداول رياضية ، تضيف ( قيمة ) جديدة للمعادلة ، ولكنها لا تتميز بين بعضها والبعض الآخر بشيء ، كما تريد بعض المذاهب الوضعية ، وبخاصة المادية ، أن تقود الناس إليه.
إن جوهر هذا الموقف الفكري ـ التاريخي في الإسلام ليلقي ضوءً على مدى المرونة التي يتحتّم أن تأخذ بها أية دعوة جادة للالتزام الأدبي ، وإن دراسة معطيات الحضارة الغربية المعاصرة ونتائجها التي صورها لنا الأدب الغربي لتطلعنا بوضوح على مغزى ( موقف ) الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عندما كان يؤكد في كلماته ، وإطرائه لصحابته ، على التنوع ، والفردية ، والإبداع الذاتي ، والشخصانية ، وعندما كان يسعى لكي يكون كل إنسان مؤمن نسيج وحده ، مخلوقاً يختلف ( باطنياً ) عن الآخرين ، ويحمل خصوصيته المتفردة. وهذا لا يعني إقامة الجدران ضدّ التوحد الجماعي والتنسيق الشمولي للمجتمع الذي سعى الإسلام إلى بنائه ، على العكس ، ان هذا التنوع ، وهذا الاستقلال الشخصاني ، وهذا التفرّد ، لهو الأساس العميق لقيام مجتمع لا يطويه التشابه الأصمّ والتجريد الميّت ، فيعرضه للتحطم في أية لحظة ، وانما ذلك المجتمع الذي تتكامل فيه عناصر الإبداع ومقومات التنوع ، لكي يغدو ـ بالتالي ـ أشبه بلوحة من الموزاييك المنسق الألوان ، الذي يعجب الناظرين إليه ، والذي تتآلف ألوانه وتتناغم بانسجام مدهش يعبر عن مثل متقدم للتناسق الاجتماعي.
إن ما قاله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر ( رضي الله عنه ) محركاً فيه صفاته الخاصة وصدقه الذاتي ، وإيمانه المطلق بكل ما يمسّ الرسالة ، غير ما قاله لعمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) مفجراً فيه إمكاناته الذاتية ، ورغبته في استعلاء المجتمع الذي ينتمي إليه ، وقدرته على تحدّي الغموض ، وسعيه الدائب للوصول إلى الهدف على الخط المستقيم ، وغير ما قاله لعثمان ( رضي الله عنه ) مقدراً فيه تجرّده الكامل ، وحياءه العميق ، وحلمه الذي لا تحدّه حدود ، وكياسته التي يعرفها أصحابه وخصومه ، وغير ما قاله لعلي
( رضي الله عنه ) عندما كان يناديه على تخوم المعارك الفاصلة ، وفي لحظات الملاحم ، ليسلمه الراية ويدفعه إلى القتال ، فارساً منافحاً عن دينه ومثله ، وغير ما قاله لأبي ذر
( رضي الله عنه ) أنه سيموت وحده ويبعث وحده لأنه نسيج وحده ، وغير ما كان يقوله
لابن مسعود طالباً منه أن يرتل عليه القرآن ، وهو الذي أنزل عليه القرآن ، معللاً هذا بأنه يحب أن يسمع كلمات الله من أصحابه .. وغير ما قاله لكثيرين لا يحصيهم العد من الصحابة الكرام ، مهيئاً كلاً منهم لدوره المتفرّد الذي أتاح للمسلمين أن يقودوا العالم ، ويعيدوا صياغة خرائطه.
ومن ذا يستطيع أن يقول أن تأكيد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هذا على التفرّد والتنوع وانماء الشخصية والتجربة الذاتية لكل من صحابته ، قد أعاق ظهور مجتمع إسلامي موحد ، متماسك ، يسوده العدل والتكافل والانسجام ، وتتفجر طاقاته التعبيرية متوحدة ، متفردة ، متنوعة ، لا يحكمها القسر الرياضي ، ولا يشل تفرّدها وثراءها منطق القطيع ، دون أن تشذ ـ في الوقت ذاته ـ عن الأهداف والمعالم الأساسية التي جاء الإسلام لكي يحميها ، ويغذ الخطى إليها ، ويضع على تخومها حراس الحرف ومجاهدي الكلمة ؟
إن حرص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على تفرد أصحابه ، واغناء
مكوناتهم الشخصية ، وتعميق استقلالها ، ليس سوى تطبيق عملي لرغبة الإسلام في إقامة حضارته المتوحدة على قاعدة تنوع النماذج الإنسانية ، ورفضه الشديد القاطع لأن يتحول المجتمع إلى قطيع من الأغنام .. إلى أرقام متشابهة في معادلة رياضية ، تنتهي إلى كسر أو عدد صحيح ..
ولقد انعكس هذا التنوع الذي أراده الإسلام ، بالضرورة ، وقبل كل شيء ، على التعبير الذاتي للإنسان المسلم ، حيث تنوعت المعطيات ، وحيث طلع الأدباء والفنانون على الناس بصنوف وأنماط شتى لا يحدّها إطار ، ولا يحصيها عدّ ، في مختلف حقول الآداب والفنون. وليس كالحضارة الإسلامية ، إذا ما قارناها بالحضارات الأخرى ، قدرة على بعث هذا التنوع في الأساليب والمضامين الفنية ، وفي اغناء الحضارات البشرية بمزيد من المعطيات التي تبشر بمنظومة أصيلة ومتميزة من الأفكار .. تلك المعطيات التي لم تأسن جداولها فترات طويلة من الزمن ، بل ظلت تتدفق متلبسة كل حين بلون جديد وطعم لم يألفه الناس من قبل.
عبر تلك المساحات الواسعة كان أبناء الأمة الإسلامية يتجولون ، يقولون ما يشاءون في الحدود التي رسمها الله ورسوله .. يعبرون عن خلجات نفوسهم كما يشتهون ، ويصوغون تجاربهم ومشاعرهم بالأسلوب الذي يرتأونه ويرتاحون إليه. ولقد بلغ الأمر حداً من حرية القول والتعبير صرنا نجد الخلفاء معه لا يبحثون فقط عن أولئك الذين يقولون الحق دون وجل أو خوف ، بل ان أبياتاً مؤثرة من الشعر قيلت ، أو كلمات جميلة أعلنت ، فاذا بها تخلص أصحابها من جرائم مارسوها لا علاقة لها بقول أو تعبير .. ليس هذا فحسب ، بل ان بعض المسؤولين أعجبتهم الكلمات المؤثرة ، والتعابير والأبيات الصادرة عن الوجدان ، وإذا بهم يهتزون نبلاً وكرماً فيضعون أيديهم بأيدي القائلين ويخلعون عليهم ، أليسوا هم أبناء الأمة التي هزّت رسولها الكريم ـ يوماً ـ أبيات من الشعر ، فنزع بردته ومنحها الشاعر نفسه الذي كان قد هجاه من قبل هجاءً مرّاً ؟!
3 ـ الحداثة والتراث
هناك مساحة واسعة من القلق والغموض بصدد الموقف من ثنائية الأصالة
والمعاصرة ، أو التراث والمعاصرة التي تبدو في أكثر صيغها جدة فيما اصطلح عليه بتيار الحداثة .. وتأتي في هذا السياق معضلة التعامل مع المعطى الغربي بشكل عام.
وتأخذ هذه الإشكالية صيغاً شتى من بينها على سبيل المثال ذلك الاعتقاد الخاطئ ، السائد لدى العديد من الأدباء الإسلاميين ، بأن احترام التراث يوجب رفض الحداثة والتنكر
لها ، أو أن قبول بعض حلقات الحداثة يعني بالضرورة التنكر للتراث. ولقد ثار جدل كثير حول هذه المسألة التي بنيت على فرض خاطئ ، فإن أحد القطبين لا ينفي الآخر بالكلية بل يمكن أن يجد فرصته للتحقق جنباً إلى جنب.
ابتداءً ، فان الأدب الإسلامي المعاصر لا تتشكل ملامحه ولا تتحدّد شخصيته المتميزة إلاّ بالتحذر في اثنتين : العقيدة والتراث ، وإلاّ فقد خصوصيته ، فإذا كانت الأصول العقدية للأدب الإسلامي مما لا يختلف عليه اثنان ، فان التراث باعتباره معطى وضعياً ينطوي على هامش من الحرية تفسح المجال للانتقاء. فإذا سلمنا بأن ممارسة كهذه لا تعني بالضرورة نفياً للتراث ، لم يبق ثمة حجة للاصطراع الموهوم بين فئتين من أدباء الإسلامية تلتصق إحداهما بالتراث بأكثر مما يجب حتى أنها لا تكاد تترك بينها وبينه فاصلاً مناسباً للرؤية الصائبة التي تتيح الأخذ أو الرفض على هدى وبينة ، وتبعد الفئة الأخرى صوب الطرف النقيض مدّعية أن الأدب الإسلامي ما دام يحمل لافتة " المعاصرة " فان عليه أن يفك ارتباطه بالتراث.
إن إحدى خطوات تعديل الوقفة الجانحة لأدبنا الإسلامي هي إزالة هذا الوهم وتحقيق التصالح الموزون بين التراث والمعاصرة. وإن حركة الأدب الإسلامي هذه لهي " معاصرة " بقدر ما يتعلق الأمر بتنظيراتها وجانب كبير من ممارساتها النقدية والدراسية ، كما أنها
" معاصرة " باستعارتها العديد من التقنيات الإبداعية المتقدمة لدى الآخرين ، وخاصة الغرب. وهي " تاريخية " بقدر تجذرها في المعطى التراثي الخصب ذي الخبرات المتراكمة عبر العصور ، وليس أقلها محاولات سابقة مثل نظرية النظم للجرجاني ، حيث نجد تأسيساً بنيوياً في التعامل مع النص من داخل نسيجه الخاص ، وكذلك المعطيات البلاغية في مجال المجاز والاستعارة والكناية ... الخ. مما يمكن أن يطلّ برأسه على ( الانزياحية ) الأكثر حداثة التي بالغت في التباعد بين اللغة ومطالبها من ناحية ، وبينها وبين دلالاتها التعبيرية غير المباشرة من ناحية أخرى ، ووضعت معايير نقدية قد تصدق حيناً وقد لا تصدق أحياناً.
ثم إن مصطلح الأدب الإسلامي ، قبل هذا وذاك ، إذ ينبني على رؤية متميزة للكون والعالم والإنسان والوجود ، قد يجد انعكاسه ليس فقط في التراث ، أو حتى في الأعمال الإبداعية المعاصرة ، وإنما في العالم على امتداده. فحيثما التقت مفردات نص إبداعي بهذه الرؤية ، وتناغمت معها ، أصبح النص صالحاً لإغناء الأدب الإسلامي ، الذي يملك من المرونة وسعة الفضاء ما يسمح بانفتاحه على البعدين الزمني والمكاني معاً.
إن تيار الحداثة في سياقيه النقدي والإبداعي سلاح ذو حدين ، فهو قد يمنحنا أدوات عمل جيدة في الممارسة النقدية ، تكشف وتحدد وتضيء وتتجاوز بالناقد حافات " الذاتية " التي مارست لزمن طويل إصدار أحكامها الارتجالية ، وفرضت ميولها وذوقها الخاص على النص بنوع من المصادرة التي تبعد بالنشاط النقدي عن موضوعيته المرجوة. كما أن الحداثة " الإبداعية " يمكن أن تعطينا خبرات وصيغاً جديدة ، وتكسر بعض التقاليد الفنية العتيقة باتجاه تقاليد أكثر جدة وملاءمة ، وتضع قبالة المبدع حالات مدهشة في توظيف التقنيات الفنية.
لكن هذا هو أحد جانبي الصورة ، وثمة الجانب الآخر الذي يقود إليه إلحاح العقل الغربي على تجاوز الثوابت والنزوع إلى التحول والتغيير ليس فقط في دائرة الأدب ، وإنما في جل سياقات الفكر والحياة ، الأمر الذي أدى في حالات عديدة إلى التضحية بخبرات الأجيال وضرب الثوابت النقدية والإبداعية عرض الحائط ، وإيجاد بدائل جديدة سرعان ما كانت تتعرض هي الأخرى للتجاوز والإهمال.
والضحية في معظم الأحيان هو القارئ الذي لا يكاد يجد موطئ قدم يقف عليه وهو يتعامل مع النص الإبداعي حيناً ، ومع الجهد النقدي المنصب عليه حيناً آخر.
إن مذاهب النقد الأكثر حداثة ونظرياته أخذت تضيق الخناق على القارئ وتعزله عن النص الإبداعي لكي تستأثر بالتأويل والتفسير ، كل وفق منهجه ورؤيته. ولم يعد من حق القارئ أن يمارس التجوال الحر عبر النص بعيداً عن رقابة النقد واثرته ، ذلك الذي بلغ في أكثر النظريات حداثة ، كالبنيوية والسيميائية والتفسير الانزياحي ، وباسم المنهج العلمي في النقد ، حدّ إرغام النص على قبول مقولات المشرحة والمختبر !
والحق أن الموضوع يستحق محاولات جادة من النقاد والدارسين الإسلاميين تبين مظان الإيجاب والسلب في دعوات أو كشوف كهذه ، فتضيء بالإيجاب منهجها النقدي الذي يطمح لأن يكون متميزاً ، وتتخذ من السلب مؤشراً مدعماً بالحجة والجدل والبرهان على أنه ما كل ما يجيئنا من الغرب في هذه الدائرة أو تلك من دوائر المعرفة الإنسانية يمكن أن يبهرنا أو يجعلنا نلهث وراءه ، متخلين عن أولويات في العمل والمنهج قد تكون أكثر أهمية وجدوى.
إن الاتجاهات الحديثة تلح في تحميل النص دلالياً ، أو تشريحه بصيغة مختبرية صارمة لا وجدان فيها ، الأمر الذي قد يثير احتمال الانقلاب عليها باتجاه النقد الذاتي الانطباعي ، الحر ، كرة أخرى ، وتلك هي مأساة أحادية الرؤية لدى الغربيين ، ليس في مجال النقد فقط ، وإنما في سائر الأنشطة والكشوف التي شهدتها دائرة العلوم الإنسانية.
والأولى ، كما يتبادر للوهلة الأولى ، تحقيق قدر من التوازن بين الموضوع والذات ، بين القانون والحرية ، بين العلم والذوق ، بين التشريح والرؤية الشمولية ، ما دام الأمر ينصب على المعطى الإبداعي الذي يصعب ، بل يستحيل ، إدخاله من عنق زجاجة العلم أو القانون أو المعادلة الرياضية. وبدون التحقق من هذا التوازن ، فقد يخشى من حدوث رد الفعل المتوقع ، بل المؤكد ، لأن المسألة ببساطة هي أن قراء النقد وجماهير الأدب يريدون أن يقرأوا شيئاً ممتعاً ومجدياً في الوقت نفسه ، شيئاً يفّسر لهم النص ويضعهم فيه كذلك ،
أي يجعلهم ينفعلون به ويتأثرون ، ويدركون ، بلمسة التعامل المشترك بين الناقد والمبدع والقارئ ، الملامح الجمالية للنص وقيّمه التعبيرية.
إن كل حركة نقدية تطلع في الغرب تمثل ولا ريب كشفاً ذا قيمة وإضاءة جديدة تستخدم الأنشطة النقدية من أجل التحقق بإيغال أعمق وأكثر انضباطاً في شرايين النص. هذا أمر يكاد يكون متفقاً عليه ، لكن محاولات العقل الغربي المعهودة والمكرورة التي تأخذ بخناق المنهج الغربي في حقول الإنسانيات هي سعي لمط الاكتشاف لكي يفسر أكبر قدر من الحقائق سواء في حقله الخاص ، أو حتى في الحقول الأبعد نسبياً عن تخصصه فيقع في الخطأ ، بل إنه كثيراً ما يسعى إلى الاستئثار بالحقل الذي يتعامل معه ويرفض أية إضاءة قد تجيء من رؤية مغايرة أو منهج آخر على الرغم من أنها قد تكون تفسيراً تكميلياً ربما يعين الدارس على فهم أعمق وأكثر شمولاً لما بين يديه.
إن التعميم ، والرؤية الأحادية التي تتجاوز إضاءات الغير وكشوف الآخرين هما اللذان يجعلان معظم الحركات الغربية في ميدان الإنسانيات تسقط في نهاية الأمر في مستنقع الإدعاء بالقدرة على فعل المستحيل ؛ والمستحيل ها هنا هو تحويل الكشف الجزئي إلى عقيدة شمولية تعطي جواباً عن كل سؤال. وهذه المسألة تكاد مستعصية ، وكثيراً ما قادت إلى نتائج خاطئة أو مهزوزة انتهت بسقوط الكشف نفسه ، أو تهافته ، وفقدان الثقة بمصداقيته ، كما حدث مع الماركسية والوجودية والفرويدية وغيرها ، وصولاً إلى البنيوية التي أخذت منذ الستينيات تتلقى ضربات قاسية والتي سعت بخلفياتها الفلسفية إلى قتل الإنسان ، إذا استخدمنا عبارة المفكر الفرنسي المعروف روجيه جارودي ، والتي لا تزال تتلقى سيلاً من ردود الأفعال في عدد من بلدان الغرب.
على أية حال ، فان الناقد المسلم ، وهو يتعامل مع نظريات وكشوف ومذاهب كهذه ، يمكن أن يلحظ كيف أن بعض محاولات الحداثة النقدية ، كالانزياحية مثلاً ، لا ترتبط بأية رؤية أو منظور ذي طابع فكري وإنما هي تقنيات منهجية صرفة تضع أدواتها في خدمة النص ، بغض النظر عن مدى سلامة هذا المنهج وقدرته على التحليل والتفسير ، بينما تنسج محاولات أخرى ، كالبنيوية مثلاً ، حول نفسها منظومة من المفاهيم التي تخرج عن دائرة التقنية باتجاه التعامل مع الإنسان ووضعه في العالم ، وقد يصل بها الأمر إلى حافات العقائدية. ومن خلال هذا الفارق بين النمطين يتأتى للناقد المسلم أن يفيد ما وسعه الجهد من الحالة الأولى ذات الطابع الحرفي الجزئي الذي يتحاشى الشمولية والإيديولوجية ، وأن يكون حذراً من الحالة الثانية على الرغم من أن حذره من الخلفيات يجب ألاّ يصده عن المضي للإفادة من الجوانب الحرفية الصرفة للمحاولة.
والمهم هو تجاوز الوقوع في أحد أمرين : التقبل الكامل لمعطيات الحداثة بدافع الإعجاب والتزام " العلمية " في العمل النقدي ، أو الرفض الكامل لها بحجة ارتباطها بخلفيات قد ترتطم في مفرداتها ، أو بعضها ، مع المنظور الإسلامي للكون والعالم والإنسان ، ولطبيعة النشاط الإبداعي.
هذا هو أحد طرفي المعضلة التي يعاني منها أدباء الإسلامية ، أما الطرف الآخر فهو الموقف من التراث.
يتحتم علينا ابتداء أن ننظر إلى التراث بوصفه معطى بشرياً ينطوي على الصواب والخطأ ، فيما هو إبداعي وما هو اجتراري ، إنه خزان الحضارة ، ما نكتبه من شعر وأدب ونكتشفه من حقائق ونصوغه من فلسفات ونتخلق به من طبائع ونتشكل به من عادات وتقاليد وأذواق .. هذا كله يصب في ساحة التراث ، وقد يكون في العديد من مفرداته وليد بيئة ما ، أو زمن محدد ، وبالتالي فانه لا يحمل صفة الإلزام ، ونحن لسنا ملزمين بحمله على كواهلنا والمضي به عبر الحاضر إلى المستقبل ، وهو لا يحمل طابع القدسية على أية حال. وفي آيتين كريمتين يحررنا كتاب الله من أعمال الأجيال الماضية )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ([13]) وهو يدين الكفار لتشبثهم الأعمى بتقاليد الآباء والأجداد : ) إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ( ([14]) وعليه فنحن نستطيع أن نتعامل مع التراث بكل حرية : نقبل ونرفض ، نفكك وننتقي ، نعيد التركيب في ضوء ما تقود إليه هذه العملية من بناء لأنفسنا وتأكيد لوجودنا كأمة متميزة. ومدار الأمر أن نكون مخلصين لله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي منحنا معياراً إنسانياً مرناً في التعامل مع مفردات سلوكنا اليومي والمعرفي في حديثه الشريف : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمريء ما نوى "([15]) فإذا أردنا أن نتحرك ، أو نمارس فعلاً حضارياً وتوافرت النية المخلصة في دائرة الضوابط الشرعية فذلك هو الضمان ، بخلاف أولئك الذين يتعاملون مع تراثنا من خارج دائرة الإسلامية من الملاحدة والعلمانيين والمتغرّبين الذين يدسّون رؤوسهم في المعطيات التراثية برؤية انتقائية مسبقة لا يحكمها ضابط أو معيار ، ويسوقها الظن والهوى فتكون النتيجة عبئاً بمقدرات هذا التراث وتزييفاً لخصائصه.
إننا أحرار في تعاملنا مع التراث شرط أن نكون مخلصين لخصوصياتنا وعقيدتنا وثوابتنا وتاريخنا ، وأن يتجاوز هذا التعامل الصيغ المتحفية الساكتة أو حتى الأكاديمية
البحتة ، وأن يعين ـ بدلاً من ذلك ـ على تحريك حياتنا الراهنة وإعادة تركيبها في ضوء الخبرة التاريخية من أجل أن نتجاوز حالة التفكك وانعدام الوزن وضياع الشخصية.
4 ـ غياب المنهج
تغيم على العديد من الأدباء الإسلاميين طبيعة الجهد الأدبي وما ينطوي عليه من حلقات يرتبط بعضها ببعض ويفضي بعضها إلى بعض ، الأمر الذي قادهم إلى تجاهل بعض الحلقات أو إهمالها على الرغم من أهميتها القصوى ، فترك ذلك فجوات في معمار الأدب الإسلامي المعاصر لابد من معاينتها جيداً والسعي لتداركها لاستكمال البناء وتمكينه من رفع الخطاب الأدبي الإسلامي بأقصى وتائره فاعلية وتكاملاً. وقد دفع هذا التجاهل أو الإهمال بعض الباحثين من خارج دائرة الإسلامية ـ في أحسن الأحوال ـ إلى اعتبار الإسلامية " معياراً " وليس " مذهباً " ولا " مدرسة أدبية " ، إنما هو " رؤية ترتبط في أساسها بالإسلام ، وتهدف إلى إبراز أدب يحمل قيماً إسلامية ترتبط في عمقها بالنص " القرآني " ([16]).
فهل الأدب الإسلامي أدب معياري يستمد قيمه من الرؤية الإسلامية ويهدف إلى تكوين معطيات إبداعية تحمل هذه القيم وترتبط بها ؟ بعبارة أخرى : هل هذا الجانب ـ الذي لا يكاد يختلف عليه الإسلاميون أنفسهم ـ هو الطرف الوحيد في الصورة ؟ وهل أن الأدب الإسلامي لم يرق إلى أن يكون مذهبه الخاص أو مدرسته المتميزة ؟
لا ريب أن البداية الصحيحة للإجابة عن هذا السؤال تقتضي متابعة متأنية لطبيعة النشاط أو المعطى الأدبي المعاصر على إطلاقه ، أي في إطاره العالمي ، لتبّين أنماطه وطبقاته ، وللإحاطة بمعماره الشامل ذي النسب والأبعاد والتكوينات ذات الارتباطات الصميمة بين بعضها والبعض الآخر.
فالنشاط الأدبي ليس إبداعاً فحسب كما أنه ليس قراءة نقدية للنص فحسب ، وإنما
هو ـ فضلاً عن هذا وذاك ـ مذاهب أو مدارس في الإبداع تتشكل وفق المنظور أو الإطار الشامل الذي يتكون العمل الإبداعي في رحمه ، كما أنه " مناهج " و " طرائق " لدراسة الأدب وتصنيفه وفق سياقاته في الزمن والمكان ، وفي ضوء قوانينه وارتباطاته الداخلية ، ثم
هو ـ في نهاية الأمر ـ " نظرية " شاملة تلم هذا كله ، وتبحث عناصر الارتباط والتأثير والتأثر بين طبقاته ، وتؤشر على النسب والأبعاد بين معطياته ، ثم تسعى لاستخلاص التوجهات الشمولية التي تندرج فيها وتصب مفردات النشاط الأدبي كافة لكي تصوغ توجهاً ذا شخصية محددة وملامح متميزة.
ومن أجل مقاربة أدق للمسألة فان لنا أن نتصور المعطى الأدبي معماراً ذا طبقات عديدة وتكوينات شتى ، يرتبط بعضها بالبعض الآخر ، وفق منظور أفقي أو عمودي ارتباط المقدمات بالنتائج ، والأسباب بالمسبّبات. فإذا سلمنا بذلك ، أدركنا أن أي أدب متميز لابد أن ينطوي على الطبقات جميعاً ، وأن يسعى أصحابه ما وسعهم الجهد لاستكمال تكويناته كافة ، وعرفنا كذلك أن الاستنتاج السابق حول معيارية الأدب الإسلامي الذي لا يملك مذهباً أو مدرسة ، إنما هو فرصة للاختبار ، لعودة الإسلاميين إلى تقليب دفاترهم لتبيّن صدق هذا الاستنتاج أو خطئه.
وأيضاً ، سيكون هذا الاستنتاج تحديّاً محفزاً لاستكمال البنيان في حالة وجود نقص ما ، والوقوف بالأدب الإسلامي بعمارته المتكاملة نداً للآداب العالمية المعاصرة التي تملك
أدواتها ومستلزماتها كافة. وعلى ذلك ، فانه بمتابعة التيارات التي تغذي نهر النشاط الأدبي المعاصر ، على وجه الخصوص ، يتبيّن ـ وهذه مسألة يتحتم أن تكون بدهية بالنسبة للمعنيين بالأدب كافة ـ أن هناك :
المعطيات الإبداعية وفق أنواعها المعروفة التي تشكل قاعدة البناء كله.
المنظور أو الرؤية الشمولية التي تتشكل بموجبها هذه المعطيات فتكون بمجموعها :
مدرسة أو مذهباً أدبياً كالكلاسيكية ، أو الرومانسية ، أو الواقعية ، أو الوجودية .. إلى آخره.
الجهد النقدي الذي يسعى لإضاءة الأسس الجمالية للنص الإبداعي ، فيضع له المبادئ والقواعد والأصول ، ثم يبدأ في تنفيذها وفق نشاط تحليلي يستهدف الوصول إلى القيم الفنية للنصّ ودلالاته المضمونية وطبيعة ارتباطه بالمضمون أو المذهب الذي ينتمي إليه.
الطريقة أو المنهج الذي يدرس الحركة أو الظاهرة الأدبية عبر مساراتها الشاملة في الزمن والمكان ، وفي ضوء قوانينها وارتباطاتها الداخلية الصميمة.
النظرية التي تلّم هذه المعطيات وتنطوي عليها جميعاً.
وعلى ذلك فإذا كانت الإسلامية قد أبدعت أدباً وفق هذا النوع أو ذاك ، أي في دائرة الشعر أو القصة أو الرواية أو المسرح .. إلى آخره ، وإذا كان هذا الأدب ينبثق بالضرورة عن منظور متميز ، أو رؤية متفردة ، هي الرؤية الإسلامية بخصائصها وميزاتها جميعاً ، أفلا تكون الإسلامية بالتالي ، مدرسة أو مذهباً متميزاً بين الآداب بمذاهبها كافة ؟
فإذا كانت ( الواقعية الاشتراكية ) مثلاً تنبثق عن منظور مادي للكون والحياة
والإنسان ، فإن الإسلامية ، على النقيض تماماً ، ترفض الرؤية الأحادية وتضيف للمنظور بعداً روحياً ، بعداً غيبياً يتجاوز المحدود إلى المطلق ، والحسي إلى المعنوي ، وعالم الظاهر إلى عالم الباطن ، والصراع في صيغه الطبقية الإنتاجية إلى الصراع في صيغه الإنسانية الشاملة.
وإذا كانت ( الطليعية ) مثلاً ، تنبثق عن منظور عبثي لا معقول ، فان الإسلامية ، على النقيض تماماً كذلك ، تقوم على الهدفية والمعقولية والجدوى ، وترى في العالم والتاريخ والمجتمع فرصة للتحقق بالمصير .. وإذا كانت ( الرومانسية ) مثلاً ، تبحر بعيداً باتجاه العاطفة البشرية وتنساق مع منازعها وأشواقها .. وإذا كانت ( السريالية ) توغل باتجاه الطبقات البعيدة للنفس البشرية حيث تمارس الغريزة تأثيراً تحكمياً في أنماط السلوك ، فإن الإسلامية ، إذ تعطي هذا كلّه مساحة ما ، فإنها تتجاوزه صوب الآخر ، بعيداً عن " الأنا " ، وباتجاه القدرة على السيطرة وصياغة المصير ، بعيداً عن التسيّب والضبابية والفوضى التي تتمخض عن إطلاق العنان لغرائز الإنسان في عوالمه السفلية المعتمة.
وحيثما قلّبنا الأمر على وجوهه رأينا في التضادّ المتميّز للإسلامية عن سائر المذاهب الأخرى ، ما يجعلها تحمل مذهبيّتها الخاصة ، وما يمنح معطياتها الأدبية مواصفات وخصائص لا نكاد نجدها في أي مذهب آخر.
وإذن ، بقدر ما يتعلق الأمر بالارتباط العمودي بين هاتين الطبقتين في معمار الأدب الإسلامي ، أي بين المعطى الإبداعي والمنظور أو الرؤية ، يبدو أنه من قبيل الأمور المحتومة أو المسلّم بها ، أن تكون الإسلامية مذهباً وليست مجرّد معيار رؤيوي تقاس به أو تحال إليه الأعمال أو النصوص الإبداعية.
وليس صعباً أن يتأكد المرء من هذا بمجرد أن يتابع الملامح المتميزة للمعطيات الإبداعية الإسلامية التي أخذت تمتد عمقاً ومساحة عبر العقدين الأخيرين على وجه الخصوص. فإذا تذكرنا أنها شكلت في الأساس لكي تعبر عن المنظور الإسلامي ولكي تقدّم البديل " المذهبي " لآداب الغرب التي استأثرت بالساحة الأدبية عبر القرون الأخيرة وجعلت من العالم كله " مجالا " لظنونها وأوهامها ، وأحياناً نزواتها وعبثها الرؤيوي عرفنا أن المسألة أكبر من أن تكون مجرّد معيار تقاس به أو تحال عليه هذه المفردة الإبداعية أو تلك.
بل إن لنا أن نتساءل عن طبيعة الحدود الفاصلة بين المعيارية والمذهبية وبخاصة في حالة الإسلامية " التي تنبثق عن رؤية خاصة في الدراسة الأدبية .. " ([17]) ، فإذا تأكد لنا أنه فارق في الدرجة وليس في النوع .. أدركنا أن تقسيماً كهذا لا ينفي بحال من الأحوال " مذهبية " الأدب الإسلامي.
ها هنا أيضاً لا يجد الباحث كبير صعوبة في وضع يده على حركة نقدية متميزة على مستويي التنظير والتطبيق ، تلك هي حركة النقد الإسلامي التي تملك رؤيتها المستقلة وطرائقها الخاصة في التأسيس والعمل ، والتي تنطوي " المعيارية " فيها ولكنها لا تشكلّ حدودها القصوى على أية حال. وبمجرد نظرة على القائمة الوراقية ( البيليوغرافية ) التي رتّبها الدكتور عبد الباسط بدر ، بعنوان " دليل مكتبة الأدب الإسلامي ([18]) ، تتبين المساحة الواسعة للأعمال النقدية ، التنظيرية والتطبيقية ، التي تحتلها في القائمة ، وإن كان الأمر يتطلب ـ إذا أردنا الحق ـ المزيد من الجهد والعطاء على المستويين من أجل تأصيل هذه الحركة وتثبيت ملامحها الإسلامية المتميزة ، وبخاصة على مستوى التقنيّات والأسلوبيات.
حتى إذا ما قفلنا عائدين باتجاه الطبقة أو المحور الخامس للمعطى الأدبي ، والمتمثل بمنهج متميز في الدراسة الأدبية ، سواء كانت هذه الدراسة منصبة على الأدب العربي ، قديمه وحديثه ، أو على الأدب العالمي في أصقاعه ومراحله كافة ، فاننا قد نجد خللاً ما أو نقصاً ملحوظاً في دائرة الإسلامية التي يبدو أنها لم تبلور لحدّ الآن منهجها الدراسي الخاص بها ، وإن كانت قد وضعت خطواتها على الطريق.
ها هنا يمكن أن يكون الاستنتاج السابق على قدر من الصواب ، ويمكن ـ كذلك ـ أن يكون تحدّياً مناسباً للردّ ، الأمر الذي قد يضيف إلى الحركة الأدبية الإسلامية إضافة جادة ذات غناء ، ويكفيها مؤونة اللجوء إلى هذا المنهج أو ذاك لتنفيذ دراستها لآداب الأمم والجماعات والشعوب ، ومع ذلك فاننا يجب أن نلاحظ حشداً من المفردات والتقنيات وصيغ التعامل الإسلامي مع الآداب الأخرى ، يمكن في حالة لمها وإضاءتها أن تبيّن ملامح أو أوليات منهج متميز ذي خصائص مستقلة في دراسة الأدب ، ولكنه يكاد يضيع عبر تفرقه في الأنشطة الأدبية الإسلامية بحيث يصعب على المرء أن يقول بصيغة الجزم والقطع هذا هو المنهج الإسلامي في الدراسة الأدبية.
إن هذه مسألة مهمة ، فان مجموع معطيات الإسلاميين في الطبقات الخمس الأخرى تشكل ـ ولا ريب ـ بذور منهج للدراسة ([19]) يكتسب من الرؤية الإسلامية خصائصه ومكوناته. وإذا كان لهذا الأدب منظوره المتميز للإبداع ، وللتأثيرات الزمنية ، وللتأثيرات البيئية. فإن منهجاً متميزاً للدراسة الأدبية سيتمخض بالضرورة عن هذا كله ، وقد يحتاج ألأمر إلى وقت كافٍ لبلورة الملامح ، إلاّ أن المسألة التي لا ريب فيها هي أن المواد الأولية لتشكيل المنهج قد أخذت تتجمع في أيدي الدارسين. ويجب أن نتذكر بأن التحليل النقدي يمضي ـ في كثير من الأحيان ـ لكي يغذي منهج الدراسة.
البنيوية ـ مثلاً ـ هي في أحد أبعادها الأساسية مشروع عمل نقدي لكنها في الوقت نفسه تضع منهجاً للدراسة الأدبية ، عل الرغم من أن هذا ليس محتوماً بالنسبة لكل المذاهب. فالوجودية ـ على سبيل المثال ـ لم تبلور منهجاً للدراسة الأدبية ، بل إنها لم تتمخض حتى عن تقنيات متميزة في الإبداع ، اللهم إلا في لغة التعبير ، فالمهم أن تكون على مستوى المضامين ذات تميز فكري. ولن يكون بمقدور ( الإسلامية ) أو أي مذهب آخر أن يتجاوز الإرث التقني للرواية مثلاً ، فينشئ صيغاً متميزة جديدة ، وحتى الاشتراكية الماركسية ، على عنف ثورتها في مجال المضامين ، وجدت نفسها مرغمة على احترام قواعد النوع الأدبي ، ولم يشذ عن هذا سوى المسرح لأسباب فنيّة صرفة ناقشناها في غير هذا المكان ([20]).
ويجب أن نلاحظ ـ كذلك ـ أن المنهج الإسلامي يتجاوز ( معياريته ) الصرفة إلى نوع من التحليل الشمولي المنبثق عن تميزه المذهبي في تعامله مع الآداب الأخرى ، على مستويي التقنيات والمضامين ، فهو ـ على سبيل المثال ـ لا يصنف الأدب الواقعي الاشتراكي في حظيرة الأدب غير الإسلامي لكونه لا يحمل قيماً إسلامية فحسب ، بل لكونه يستمد من تحليل للدوافع والمبررات هو في أساسه خاطيء محدود. كما أن هذا المنهج قد يتقبل ويقوم أدباً غير إسلامي في انتمائه الديني ، أو المكاني ، لكنه يلتقي مع الرؤية الإسلامية في شموليتها.
والآن ، هل أن هذا المنهج يميل إلى المكانية أو الزمانية ؟ هل هو منهج نفسي أو اجتماعي ؟ هل هو منهج فني صرف ( الأجناس والفنون والمذاهب الأدبية ) ؟ أم هو منهج علمي ؟ أم أنه توفيقي شمولي يتضمن هذه الأبعاد جميعاً ، أو بعضها على الأقل ؟ وهل ثمة ما يمنعه من الأخذ أو الإفادة من إضاءات المناهج كافة ، في جوانبها الحرفية الصرفة ، لكي يشكل ملامحه الخاصة ؟ وكيف ستنطوي هذه الملامح على خصوصيتها المتميزة إذا كانت تبني معمارها أساساً على الاقتباس من سائر المناهج الأدبية الوضعية ، إذا صح التعبير ؟ وهل يمكن ، تجاوزاً لإشكالية كهذه ، أن يتم الأخذ وفق معايير وضوابط إسلامية تنبثق في أساسها عن أدب متميز ذي رؤية ومواصفات مستقلة ؟ وفي حالة كهذه سيتاح للمعنيين بتأسيس المنهج فرصة الانتقاء الذي يحمل حساسيته الرؤيوية وحتى التقنية ، إزاء ما يجب أن يأخذ وما يجب أن يترك ، بحيث نستطيع حينذاك أن نطمئن إلى أن المنهج الدراسي الإسلامي سوف لا يضيع في غمار المناهج الأخرى وهو يتعامل معها ، فيفقد ملامحه وشخصيته ؟
ثم ألا يتحتم على هذا المنهج المقترح ، الذي لا يقل ضرورة عن أي من مطالب النشاط الأدبي في جملته ، أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك إلى التراث الأدبي للأجداد ، لكي يضع يديه على بعض الأوليات التي تعينه على تأصيل شخصيته من خلال تجذر المنهج في العقيدة والتراث ، وحينذاك لن يكون التعامل مع مناهج الغير مجازفة غير مأمونة العواقب من خلال الاتكاء على المعطيات الجاهزة وتلفيق منهج دراسي من أجزائها وتفاريقها ؟
هذه ، وغيرها ، من الأسئلة والمعضلات المعلقة ، هي بأمس الحاجة إلى إجابة مقنعة ، تتجاوز الإنشائية إلى قدر من التوثيق الذي يجعلها قديرة على بناء المنهج بما يجعله إسلامياً حقاً.
وليس من مهمة هذه الصفحات أن تقدم ، أو تقترح ، صيغاً لتشكيل المنهج الدراسي ، ولعلّ هذا يتحقق في جهود متواصلة للعديد من المعنيين بمعونة الله وحده ، وإنما غرضها فقط أن تؤكد أن غياب المنهج الدراسي في معمار الأدب الإسلامي يمثل تحدياً مثيراً قد يدفع الإسلاميين إلى الاستجابة له من أجل ردم هذه الهوّة واستكمال البناء.
ولكن ثمة ما قد يخطر على البال ويلح عليه ها هنا ، وهو أن المنهج الإسلامي
قد يكون ، بشكل أو آخر ، منهجاً شمولياً يتضمن المكاني والزماني ، والنفسي والاجتماعي ، والفني والعلمي ... إلى آخره ، ليس على سبيل التلفيق بين المناهج لتجاوز إشكالية
غياب المنهج الإسلامي ، وليس على سبيل الانبهار بجوانب من تلك المناهج واستعارتها لتشكيل المنهج الإسلامي. كما أنها ليست من قبيل الاجتهاد الشخصي كذلك الذي مارسه ستانلي هايمن ([21]) ، بصياغته المذهب الشمولي في النقد ، وإنما لأن الرؤية الإسلامية هي في أساسها رؤية شمولية ، بل إن ما يميز الإسلام نفسه من سائر المذاهب والأديان المحرفة والوضعية إنما هي شموليته ، أي قدرته على لم سائر الأطراف والقضايا في معادلة وضع الإنسان في العالم ، وتجاوزه بتصميم الهي معجز أيما انكماش أو انحراف أو انحياز لجانب ما على حساب الجوانب الأخرى. إنما هو التوازن ، والوسطية ، والاستيعاب للمادي والمعنوي ، للفردي والجماعي ، للزماني والمكاني ، للمنظور والمغيب ، ولسائر الثنائيات والتفاريق في نسيج الكون وبنيان العالم وتكوين الإنسان.
وعلى هذا فان المكان والزمان ، والنفس والمجتمع ، والذات والموضوع ، والعلم
والفن .. إلى آخره .. يمكن أن تنطوي في المنهج الإسلامي للدراسة الأدبية ، ما دامت هذه جميعاً مجرّد أدوات أو خبرات منهجية للوصول إلى المطلوب. وحينذاك وفي ضوء هذا كله ، يمكن الإفادة من المناهج المشار إليها آنفاً ، مع التحفظ إزاء المفردات التي تندّ عن الرؤية الإسلامية أو ترتطم بها ، ومع ملاحظة إلحاح العقل الغربي الذي صاغ معظم هذه المناهج ، أو وضع ملامحها النهائية ، على الرؤية الأحادية التي تبالغ في تقدير قيمة ( الحالة ) التي تتعامل معها على حساب الحالات الأخرى.
وإذا كانت التقنيات ، في الأغلب ، مجرد أدوات أو جسور للعبور إلى الهدف ، وهو في الموضوع الذي بين أيدينا تفسير الظاهرة الأدبية التي تتمحور عند مضامين معينة في هذه المرحلة التاريخية أو تلك ، وفي أدب هذه الأمة أو تلك ، فان المضمون الإبداعي نفسه سيكون بمثابة الحكم الفصل في منهج الدراسة ، وها هنا ، بالنسبة للمنهج الإسلامي ، سيكون التعامل مع المضمون متميزاً ومحدداً وواضحاً ، من خلال القيم والمعطيات الإسلامية ، والإيمانية عموماً. وبعبارة أخرى ، إن منهج الدراسة الإسلامية سيبني تقويماته ، ويمارس تحليلاته ، ويصل إلى الكثير من تفسيراته من خلال حضور النبض الإيماني في نسيج الأدب أو غيابه ، وكذلك من خلال كثافة القيم الإيمانية ، أو تضحلّها في النص الإبداعي. وهو في تعامله
مع الظاهرة على هذا المستوى سيبذل جهده من أجل البحث عن الأسباب ، وسيؤشر على
القيم الإيمانية على مستوى الشكل والمضمون معاً من أجل منح التقويم النهائي للأدب الذي يدرسه ، ليس على سبيل الفرز الكمي ، وإنما عن طريق الإيغال في إدراك حجم التأثير الإيماني في النشاط الإبداعي لهذا الأدب أو ذاك ، وتبين الدوافع الأساسية التي تجعل هذا الأدب يحمل هذه المواصفات أو تلك مما يميزه عن أدب أمة ، أو بيئة أو عصر آخر.
وعلى سبيل المثال فان دراسة الأدب اليوناني القائم على التعددية الوثنية وفق هذا المنهج ، سيصل إلى نتائج مغايرة ، بدرجة أو أخرى ، للنتائج التي تمخضت عن المناهج الأخرى ، لاسيما إذا تذكرنا حجم البعد الديني في تكوين هذا الأدب. وستنعكس الحالة تماماً عند التقابل بين المنهجين الإسلامي والمادي ( الاجتماعي ) وهما يدرسان الأدب الإسلامي القائم على التوحيد في عصر راشدي أو أموي أو عباسي.
إن الرؤية المذهبية وضعت بأيدي الدارسين صيغ تقويم وأدوات عمل تمكنهم من سبر غور الظاهرة الأدبية ، كل من منطلقه المتميز .. أفلا تكون للرؤية الإسلامية ، الخصبة ، والغنية ، القدرة على منح الدارسين منظومة من القيم وأدوات العمل تمكنهم من دراسة الأدب بما يمنحهم مقاربة أكثر لخصائصه ومميزاته ؟
إن البحث في أثر الدين في الظاهرة الأدبية هو بحد ذاته ضرورة دراسية ملحّة ، أفلا يكون المنهج الإسلامي ، المنبثق أساساً عن رؤية دينية ، أقدر من سائر المناهج على متابعة هذا الأثر وتحديد أبعاده ، الأمر الذي يعدّ بحد ذاته مسوغاً مقنعاً لتشكل منهج للدراسة الأدبية يعيد الأمر إلى نصابه فيضع البعد الديني في مكانه الحق من النشاط الإبداعي بعد إذ كادت تطمسه المناهج الأخرى.
5 ـ إشكالية الفقيه والأديب
وهذه إشكالية أخرى انحرف بها المسار في دوائر الإسلاميين وأرغم القطبان ـ بدرجة أو أخرى ـ على أن يدير أحدهما ظهره للآخر ، متعمداً حيناً ، أو بتأثير من الكسل العقلي وضعف الإحساس بالمسؤولية في معظم الأحيان.
لقد وضع الطرفان ـ نتيجة قناعات أو ممارسات خاطئة ـ في حالة تضاد ، رغم أنهما ـ ابتداء ـ متوافقان يرشد أحدهما الآخر ، ويضع إشارات المرور في دوربه ومسالكه كي لا يضل الطريق ، ويخرج ـ بزاوية ضئيلة أو منفرجة ـ عن رؤيته ونبضه وخصائصه الإسلامية ، ويضع ثانيهما التحديات والأقضية الجمالية والإبداعية قبالة الآخر فيدفعه إلى المزيد من الكدح الذهني لإيجاد الاستجابات المناسبة في ضوء الضوابط الشرعية والمقاصد العليا.
إن الطرفين يستمدان من نبع كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) واجتهادات الأجداد والآباء ، وكلاهما يحرص على أن يؤدي وظيفته " الاجتهادية " أو " الإبداعية " في ضوء تصورات هذا الدين ومقوماته الأساسية. هذا يتساءل وذاك يجيب .. هذا يبدع وذاك يرشد الإبداع من أجل ألا يخرج عن جلده وبصماته الإسلامية ، ومن أجل أن يمنح الأديب المزيد من المساحات التعبيرية " المشروعة " التي يمكن أن يتحرك خلالها ويغزل من خيوطها خبراته وأعماله.
ومن أجل أن يكون المرء منصفاً لابد من التأشير على جملة عوامل مارست دورها السيئ في حفر الخنادق بين الطرفين ، وجعل القطيعة بينهما تكاد تكون القاعدة التي
لا تزعزعها الاستثناءات.
ومن بين هذه العوامل أن الفقيه ـ عبر قرون الفصام النكد بين الدين والدنيا ـ انسحب من الحياة بعد أن كان يقودها ويصنعها ، وبمرور الوقت لم يعد أحد يرجع إليه لكي يستفتيه ـ اللهم إلا في الأحوال الشخصية ـ ولم يعد هو راغباً أو قادراً على تقديم الجواب المطلوب. فإذا كان في الأمور الحيوية الأكثر إلحاحاً لا يمارس حضوره فكيف بالنسبة لما يمكن اعتباره من المسائل الكمالية أو ـ ربما ـ الثانوية كالجمال والإبداع ؟
وأدباء الإسلامية من جهتهم ـ ويسبب من عجز بعضهم وقصوره وتضحل معارفه الشرعية ـ وجدوا في انسحاب الفقيه ، أو سلبيته ، فرصة ملائمة للمضي في الطريق منفردين ، واستسلموا لنوع من الكسل العقلي الذي يغريهم باجتهاد سريع للرأي بخصوص العديد من المسائل الجمالية والإبداعية دون ان يدركوا أن موقفهم هذا قد يقودهم إلى ما تحمد عقباه وما قد يمثل ارتطاماً بالمطالب الفقهية ابتداء .. وليس أدل على ذلك من اضطراب الرأي في الحلقات الإسلامية بخصوص ظهور المرأة على المسرح ، فمن قائل بالتحريم ومن قائل بالتحليل دون أن يكلف هؤلاء وهؤلاء أنفسهم باستدعاء الفقيه.
وغير هذه المسألة جملة من التحديات تحتم عودة اللقاء بين الأديب والفقيه لكي يخرج الطرفان بما يحمي الشخصية الإسلامية للأدب من التضحل أو التناقض ، وبما يمنح الأديب نفسه الفرصة لتأصيل أعماله الإبداعية وجعلها أكثر قدرة على الأصالة والتميز.
إن أساس المشكلة يكمن في أن الفقيه لم يعد يأبه لمطالب المعرفة الإنسانية في سياقاتها كافة ، بما في ذلك الآداب والفنون التي قد يراها أمراً ثانوياً غير ذي قيمة. لقد وضع نفسه ـ مختاراً ـ في دائرة المعرفة الشرعية وأوصد دونها الأبواب ، فانعزل ـ بذلك ـ عن تيارات العصر الصاخبة وتحدياتها التي لا تكف عن التجدد والاضطراب. ولم يعد ـ بالتالي ـ يملك القدرة على تنزيل المقصود الشرعي على الواقع وتقديم الاستجابات المناسبة لتحدياته المتجددة.
إن الالتحام بالعصر لن يتحقق إلا بتجاوز الفقيه عزلة الثمانمائة عام ـ إذا صح
التعبير ـ لكي يطل على معارف العصر ويوغل في شرايينها من أجل أن يكون حاضراً في صميم اللحظة التاريخية ، قديراً على الإجابة المناسبة في اللحظة المناسبة ، على كل سؤال ، بما في ذلك تلك الأسئلة الملحّة في دائرتيْ الجمال والإبداع.
ومن جهتهم لم يكلف أدباء الإسلامية ـ اللهم إلا قلة منهم لا تكاد ترى على الخارطة ـ أنفسهم للتزود بالمعرفة الشرعية الضرورية ـ ولو في حدودها الدنيا ـ لحماية نشاطهم الإبداعي من التسيب أو الترهل على حساب التصورات الأساسية لهذا الدين.
ولعل العامل الأكثر إلحاحاً من العاملين آنفي الذكر ، يتمثل في غياب المرجعية العليا التي تأخذ بيد الطرفين وتعيد إليهما حالة الوفاق الضائع ، فتدفع الفقيه إلى أن يكون أكثر حضوراً في صميم العملية الإبداعية ، وربما النقدية ، وتقنع الأديب بضرورة الرجوع إلى الفقيه حيثما حزب عليه الأمر واضطربت مسالك الطريق.
لقد كان العديد من كبار الفقهاء والأصوليين ، زمن تألقنا الحضاري ، أدباء يشار
إلى معطياتهم بالبنان : كانوا يعظون ويقصون ويحاضرون قبالة جماهير الناس بصيغ وأساليب تسحر الأفئدة وتأسر العقول ، وكانوا يكتبون ويصنفون في الأدب والجمال فيما لم يرق إلى بعض أعمالهم الأدباء أنفسهم. ولنتذكر ـ على سبيل المثال ـ الشافعي وابن حزم
وابن الجوزي وابن خلدون ، وعشرات غيرهم ممن أغنوا مكتبة الأدب الإسلامي بمعطياتهم المترعة صدقاً ، وعذوبة ، وجمالاً.
ومالنا ألا نرجع إلى النبع الذي يستمد منه كلا الطرفين رؤيته وقناعاته وقدرته على العطاء ؟ أليس هو كتاب الله بأسلوبه المعجز ، وبيانه المدهش ، ولغته المتفردة ، وجمالياته الخصبة ، وعجائبه التي لا تنقضي ؟
إنهما ـ أي الفقيه والأديب ـ خريجا مدرسة القرآن ، وهذا ـ بحد ذاته ـ يدعوهما ، بل يفرض عليهما ابتداء ، الانطلاق من زاوية رؤية متوحدة ، وخط بداية واحد ، وأن يمنح كل منهما جهده العقلي للمعطى الإبداعي بتوافق مع المقاصد الشرعية ، وجعل هذه حافزاً ، وليس عائقاً ، لتدفق الإبداع.
لقد آن الأوان للتصالح بين القطبين ، ولسوف يحقق هذا لحركة الأدب الإسلامي الكثير من النتائج ويمضي بها قدما إلى الأمام.
إنني لأتذكر هنا ، من بين العديد من المسائل التي تعرض لأدباء الإسلامية في دائرة العلاقة بين الفقه والأدب ، إشكالية " الخيال " ومدى حليته في العمل الأدبي ، وهل يخرج به إلى دائرة الكذب إذا تجاوز الوقائع ـ بدرجة أو أخرى ـ وتحدث عن أمور وخبرات غير واقعة أساساً ؟
من أجدر بالإجابة على هذا السؤال الذي طالما طرحه العديد من القراء ومتابعي معطيات الأدب الإسلامي : الفقيه أم الأديب ، أم كلاهما معاً ؟
وما من ريب ان إثارة كهذه تدل على حساسية دينية مطلوبة في معظم الأحيان ،
ولكن ما يخشى منه في حالة غياب الفقيه ، أو حضوره بصيغ حادة متصلبة لا تلم جيداً بطبيعة الجهد الإبداعي ، جعل التحرج المشروع والمطلوب في الوقت نفسه إحراجاً للأديب ، أو نوعاً من تضييق الخناق دونما مبرر مقنع أو دليل قاطع. فان ما يتضمنه أي عمل روائي أو قصصي أو مسرحي من نسيج متخيل لا يستمد خيوطه من الواقع ، لا يخرج بالعمل من دائرة الحلية ويدفع به إلى التحريم أو الكراهية في أقل تقدير ، ذلك أن الخيال الفني أداة مشروعة للتعبير بالكلمة ، سواء استمد مادته من وقائع متحققة أو متخيلة لا أساس لها ، رغم أن التخيل ، مهما شط به النوى عن حدود الواقعة ، فانه يتضمن بالضرورة قدراً من الخبرات الواقعية ، لأنه ـ بشكل من الأشكال ـ نشاط ذهني تركيبي يبني صوره وعوالمه من خبرات شتى حسية ووجدانية وروحية وعقلية ، وهذه بجزئياتها وتفاصيلها لا يمكن الا أن تكون قد مورست وتحققت في دائرة الفعل والتنفيذ.
6 ـ حول التأصيل الإسلامي للأدب
في ضوء المعطيات السابقة ، يبدو أن التأصيل الإسلامي للأدب ، أو تشكل أدب يعكس التصوّر الإسلامي للكون والحياة والوجود والمصير ، ضرورة من الضرورات بل بداهة من البداهات ، إذا وضعنا في الحسبان ما تحقق من منجزات في ساحة هذا الأدب.
فبعد ما يقرب من نصف القرن على تشكل حركة الأدب الإسلامي المعاصر ، بالمواصفات والشروط التي صاغها الرواد الأوائل ، قدر هذا الأدب على أن يحقق حضوراً مؤكداً.
كان المخاض عسيراً والنتاج شحيحاً لا يكاد يرى على خارطة المذاهب والمعطيات الأدبية المهيمنة على الساحة. ومع القلة والتعثر إنكار ملحوظ مارسه القريب والبعيد لحصار الظاهرة ووأدها.
لكنها بقوة الدوافع التي بعثتها إلى الوجود ، مضت تشق طريقها ، وما لبث النبع أن راح يتدفق خصباً وعطاء ، وهو يعد بالمزيد. وأصبح لهذا الأدب حضوره الملحوظ في الساحة ، وراح نتاجه يتزايد بصيغة متوالية هندسية قدمت للقارئ في كل مكان من عالم الإسلام عشرات ومئات وألوفاً من البحوث والمقالات والدراسات والكتب ، ومثلها من الأعمال الإبداعية في سياق الأنواع الأدبية كافة.
كما أن هذا الأدب قدر على توظيف جل الآليات والقنوات الممكنة لتحقيق حضوره وانتشاره : الإذاعة والتلفاز والكاسيت والفيديو والقرص الليزري والمجلة والصحيفة والندوة والمؤتمر والكتاب ، فضلاً عن قيام مؤسسة عالمية تتبناه وتدعو إليه وتمارس أنشطتها المكثفة في سياقه تلك هي ( رابطة الأدب الإسلامي العالمية ) .. هذا إلى اختراقه جدران الأكاديمية واستقطاب أساتذة الأدب وطلبته ، وانجاز العشرات وربما المئات من بحوث الليسانس ورسائل الدبلوم والماجستير والدكتوراه ، تلك التي استقت موضوعاتها من نهره المتدفق دراسة ونقداً وتنظيراً وإبداعاً.
وبمرور الوقت أخذ الأصدقاء والخصوم معاً ، ممن كانوا لا يعترفون بشيء اسمه أدب إسلامي " معاصر " يسلمون به على مضض ، أو بقوة الاقتناع ، ويقبلون تمثيله وحضوره في هذا المجال أو ذاك من مجالات الدراسة ، والبحث والخطاب.
إن الأدباء الإسلاميين ، وهم يدلفون إلى قرن جديد ، يجدون أنفسهم قبالة حركة متميزة تزداد تجذراً وانتشاراً وعطاءً فيما يوجب عليهم المزيد من المسؤوليات ولا ريب ، والتوقف بين الحين والحين لمراجعة الحساب وممارسة النقد الذاتي وتحديد النقائص والثغرات ، ثم مواصلة المسير بأكبر قدر ممكن من شروط الإتقان والإحسان ، من أجل التمكين لهذا الأدب في الأرض وإقناع " الآخر " بأنه أدب يستحق التقدير والاستمرار.
وبموازاة المعارف الإنسانية الأخرى التي عنيت بها ( أسلمة المعرفة ) من مثل علم النفس ، علم الاجتماع ، السياسة ، الإدارة ، الاقتصاد .. إلى آخره .. مضت الحركة الأدبية تشقّ طريقها لكي تملأ الفراغ الملّح ، خاصة إذا تذكرنا قدرة الخطاب الأدبي والفني على التأثير في الآخر ، وتذكرنا في الوقت نفسه ، ما فعلته وتفعله آداب الأمم الأخرى وفنونها
في تشكيل أو إعادة تشكيل العقول والنفوس ، وتذكرنا ـ مع هذا وذاك ـ اننا نعيش عصر
( الإعلامية ) و ( الفضائيات ) التي تنفتح على العالم كله والتي تتطلب جهوداً فائقة ومتواصلة لإنتاج النصوص الأدبية والفنية الملائمة للإخراج التلفازي والسينمائي والمسرحي.
إن الخطاب الأدبي والفني يظل واحداً من أكثر الصيغ قدرة على الإثارة والإقناع ، وصوتاً يملك إمكانية اختراق سمع الإنسان المعاصر وعقله ووجدانه ، والوصول إلى عمقه الفكري والذوقي والروحي والسلوكي لتقديم قناعاته وتصوراته.
لقد أفاد " الآخر " من هذه الفرصة المفتوحة ووظفها إلى الحدّ الأقصى من قدراتها المتاحة ومارس من خلالها دوراً مزدوجاً ، فأكد بمعطياتها ذاته وموقفه وفلسفته وتصوراته ومنظوره للحياة والإنسان والعالم .. وهاجم في الوقت نفسه رؤى الآخرين وتصوراتهم وقناعاتهم فعرضها لسلسلة متواصلة من الهزات مستهدفاً تدمير ثقة الخصم بقيمه وخصوصياته ووضعه في منطقة الفراغ أو الانخفاض الجوي ، وتجريده من سلاحه ، وقطع جذوره بعقيدته وتراثه وتاريخه ، وجعله ـ في نهاية الأمر ـ يتقبل كل ما تأتي به رياح التشريق والتغريب.
إنهم يشددون حصارهم أكثر فأكثر ، يعينهم على ذلك هذا التقدم الأسطوري في تقنيات الخطاب الأدبي والفني وبخاصة التلفزيون والسينما والقرص والكاسيت ، فضلاً عن التفنن في إخراج الكلمة المكتوبة مشخصة على الشاشة الصغيرة في عالم متقارب يزداد التصاقاً يوماً بعد يوم ويغدو قرية صغيرة لا يستطيع أحد أن يهرب من مرئياتها وخبراتها التي تطرق على رأس الإنسان المعاصر وسمعه وبصره صباح مساء.
ولقد أتيح لي أن أطلع في لندن وحدها وبالإنكليزية فقط في صيف عام 1990 م على ما يزيد عن الثلاثين رواية كلها تنسج بالمغزل نفسه وتستهدف القضية ذاتها : الهجوم بقوة الكلمة وتقنياتها الجمالية على مواقع المسلمين كافة : رسالة وعقيدة ونبياً وديناً وحضارة وقادة وعادات وأذواقاً وتقاليد ، مستخدمة كل صيغ التزوير والتحوير والتزييف من أجل تحقيق هدفها المزدوج : تدمير ثقة المسلم بنفسه وعقيدته وحضارته وقياداته من جهة ، وتقديمه للآخر في صورة مشوهة مهزوزة تمنح القناعة بضرورة استمرارية قيادة الرجل الأبيض للعالم ، والتحكم بالمصير البشري.
لأضرب مثلاً معاكساً على قدرة الخطاب الأدبي والفني على التأثير في الفكر
والوجدان : فيلميْ ( الرسالة ) و ( عمر المختار ) اللذين أخرجهما مصطفى العقاد واللذين تميزا بقدر كبير من قوة الأداء نصّاً وإخراجاً وتمثيلاً .. لقد حققا ما لم تحققه مئات الخطب والمواعظ والدروس والمحاضرات .. اننا هنا قبالة اختزال من نوع فريد .. قبالة تكثيف في الجهد يمنحنا في ساعتين أو ثلاث ما لا تمنحنا إياه عشرات الساعات في حلقات الخطاب الفكري المقروء أو المسموع ، وان المرء ليتساءل فيما إذا كان بالإمكان ممارسة توظيف أكثر فأكثر للخطاب الفني في مجابهة عوامل الغزو والتفكيك. لقد مارسنا بهذين الفيلمين غزواً مضاداً إذا صح التعبير ، والذين عادوا من ديار الغرب حدثونا عن التأثير البالغ الذي أحدثه الفيلمان في عواصم أوربا ، وعن حشود الجماهير الأوربية التي راحت تتدفق على صالات العرض على مدى الأسابيع والشهور الطوال ، لمشاهدة شريطين يعرضان عليهم بقوة الأداء الفني وجمالياته جانباً من ظهور الإسلام ، وشخصية نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيم
هذا الدين ، وشرف أبنائه والتزامهم وهم يدافعون عن ديارهم ضد هجمات الغرب البربرية التي لا تعرف ديناً ولا أخلاقاً ..
ووسط الدخان الذي شوّه في عقول الغربيين كل ما يمس الإسلام والمسلمين ، يجيء هذان الفيلمان لكي يعدّلا الصورة ويكون لهما ذلك التأثير الكبير. ويتساءل الإنسان : ماذا لو واصلنا المحاولة بالمزيد من الأعمال الأخرى من أجل كسر الحلقة المفرغة ، وإيصال صوتنا إلى الطرف الآخر ؟ ها هنا يجيء دور الأديب في تقديم النصّ المناسب للتحويل الفني ومواصلة الطريق ..
إن الأدب الإسلامي ينتظره الكثير في المستقبل القريب والبعيد ، وإذا كان الإنسان في حاجة إلى هذا الأدب في كل زمن ، فانه اليوم بحاجة أشد إلحاحاً بسبب ما يعانيه من مآزق وأزمات ، وبسبب عجز الآداب والفنون الوضعية ، على تقدمها في التقنيات والأشكال ، عن أن تقدم مضامين وقيماً فكرية تليق بالإنسان وتلبي أشواقه فيما وراء دائرة الغريزة والحسّ والضرورات القريبة.
إن أدباً كهذا سيكون ولا ريب رافداً من روافد المشروع الحضاري الإسلامي البديل الذي يتأكد أكثر فأكثر بعد سقوط الكثير من النظم والأفكار الوضعية ، وعجز بعضها الآخر أو وصوله إلى طريق مسدود. وهو رافد لا يقل أهمية عن الروافد الأخرى التي تسهم في صياغة مفردات هذا المشروع ومنحه القناعات والضمانات الكافية للمرور عبر القرن الواحد والعشرين. ولسوف يكون الخطاب الأدبي والفني في هذا المشروع بمثابة المتنبئ والنذير ، ولسوف يحمل بقوة الكلمة والأداء الجميل الوعد المرتجى للإنسان الضائع في الزمن القادم.
إنه كلمة الطهر في مواجهة الرذيلة والتفكك والبهيمية والشذوذ والعفن والفساد .. وصيحة التوحيد ضد الصنميات والطاغوتيات والحتميات والأرباب .. ونداء الإيمان في صحراء المروق والكفر والشرود والإلحاد .. ورحابة العالمية والإنسانية في مواجهة الإقليمية والطبقية والعرقية .. وانفساح الأفق الكوني الوضيء المنفتح ، قبالة الجحور الضيقة التي تختنق في دهاليزها الروح ..إنه الخروج بالناس ، بقوة الكلمة وجمالياتها ، من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
إن الخطاب الأدبي يفترق عن الفلسفة أو العمل الفكري أو الأكاديمي عموماً ، في كونه يتجه إلى كينونة الإنسان ، بما هو كائن متفرد عقلاً وروحاً وجسداً وغرائز وأشواقاً ووجداناً. والأدب بهذا المعنى يغدو فرصة طيبة لتقديم خبرات الإسلام ورؤاه وتصوراته ، وزرعها في عقول الناس وقلوبهم لكي ما تلبث أن تزهو بالعطاء .. إن الأديب هو الزارع المتمرس الذي يعرف كيف يشق الأرض لكي تستقبل الماء المنصب من السماء ، فتكون الخضرة الواعدة ، ويكون النخل والزيتون والرمان.
ـ الخاتمة ـ
نحن في عصر الكهرباء والميكانيك ، نعم ، وبقدر ما يتطلب منا هذا أن نزيد في فعاليتنا لكي يكثر فينا من الخبراء والمهندسين من يملك القدرة على أن يبتكر جهازاً أو يضيف إلى حقل الإنتاج رقماً جديداً ، فان بنا حاجة في الوقت نفسه إلى أن يكثر فينا من الأدباء والفنانين من يملك القدرة على أن يقدم عملاً مبتكراً ، أو يضيف إلى مكتبتنا الإسلامية كتاباً جديداً.
إن موازنة صوت الآلة الصارم لا تكون إلاّ بصوت الفن المؤثر الجميل ، وان عالماً يأخذ بخناقه التكاثر بالأشياء لا ينفك طوقه القاسي إلا بضربات ذلك الأدب الذي يعرف كيف يخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها. لقد جاء الإسلام لكي يمارس هذا التحرير ، فما أجدر أن تعتمد قدرات الأدب لتعزيز المحاولة وإعانتها على التحقّق.
لقد أحسن ( مكتب الأردن للمعهد العالمي للفكر الإسلامي ) صنعاً باستضافة مجموعة من أدباء ( مكتب رابطة الأدب الإسلامي العالمية في المغرب ) ، من المعنيين بالهم الأدبي الإسلامي لعرض ومناقشة جملة من القضايا المتعلقة بالمضمون الفكري للأدب الإسلامي ، ولعل مبادرة كهذه تتحول إلى " تقليد " متواصل في التعاون والتنسيق بين ( المعهد )
و ( الرابطة ) بسبب الهم المشترك الذي يستهدف التأصيل الإسلامي للمعرفة الإنسانية ، والتي يشكل المعطى الأدبي والفني مساحة واسعة ومؤثرة في نسيجها.
ولقد سبق في تسعينيات القرن الماضي أن جرت محاولة لإصدار مجلة تعنى بالهم الأدبي الإسلامي تنظيراً ونقداً وإبداعاً ، يتبناها ( مكتب الأردن للمعهد العالمي ) في سياق أنشطته المعنية بالتأصيل الإسلامي للمعرفة الإنسانية ، ولكن جملة من العوائق حالت دون تحقيق ذلك ، وإلاّ لكان قد أنضاف إلى مجلة ( إسلامية المعرفة ) و ( مجلة الأدب الإسلامي ) و ( المشكاة ) مجلة أخرى تعززّ المسيرة وترشدها.
في ضوء ما تقدم تبدو ( أسلمة المعرفة ) أو ( التأصيل الإسلامي للأدب ) ،
التزام مبدع بمنظومة الخبرات والقيم الفكرية للإسلام ، وتقديمها للناس بأشد وتائر القدرة على التأثير ، يوازيها سعي مرسوم لهدم القيم الوضعية المضادة في الفكر والأدب والحياة.
ولكن ، بما أن الإبداع الأدبي في أجناسه كافة ، ينطوي على بعد آخر يلتحم بالبعد الفكري ، ويمكنه من التأثير في المتلقي ، وذلك هو منظومة القيم الجمالية ، فان التأصيل الإسلامي للأدب يتحتّم الاّ يغفل عن ايلاء الاهتمام البالغ بهذا الجانب ، وأن يبحث ما وسعه الجهد عن بدائل إسلامية للقيم الفنية الشائعة في الآداب العالمية ، رغم إقرارنا ـ مسبقاً ـ بأن معظم هذه القيم يحمل وجهاً محايداً يمكن توظيفه في هذا المذهب أو ذاك.
ومع المضمون الفكري والقيم الجمالية ، لابدّ للأدب الإسلامي ـ وهو يسعى إلى المزيد من التأصيل ـ من أن يشكل منهجه المتميز في النقد والدراسة الأدبية ، أسوة بما فعلته وتفعله جلّ المذاهب والمدارس النقدية في العالم.
([1]) ترجمة حليم طوسون ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ـ 1968 م.
([2]) الطبعة الأولى ، دار القلم ، القاهرة ـ بدون تاريخ. ويجب الاّ ننسى هنا كتاب الدكتور نجيب الكيلاني
( الإسلامية في الأدب ) الذي قدم اضاءات مبكرة للمسألة التي بين أيدينا. وهنالك كتاب سيد قطب
( أسس التصور الإسلامي ومقوماته ) الذي يمدّنا جزؤه الأول ـ بشكل غير مباشر ـ بالعناصر الأساسية التي تقوم عليها البنية الفكرية للأدب الإسلامي.
([3]) محمد قطب : منهج الفن الإسلامي ، ص 47-32.
([4]) المرجع نفسه ، ص 65-48.
([5]) المرجع نفسه ، ص 34-66.
([6]) المرجع نفسه ، ص 124-95.
([7]) المرجع نفسه ، ص 143-125.
([8]) المرجع نفسه ، ص 163-144.
([9]) المرجع نفسه ، ص 176-164.
([10]) ينظر : المرجع نفسه ، ص 203-177.
([11]) سورة الشعراء ، الآيات 227-224.
([12]) جان بول سارتر : الأدب الملتزم ، ترجمة جورج طرابيشي ، الطبعة الثانية ، دار الآداب ، بيروت ـ 1967 م ، ص 61-60.
([13]) سورة البقرة ، الآية 134.
([14]) سورة الزخرف ، الآية 23.
([15]) رواه الشيخان.
([16]) د. عمر محمد الطالب : مدخل إلى مناهج الدراسة الأدبية ، منشورات عكاظ ، الرباط ـ 1988 م ، ص 229.
([17]) ينظر بالتفصيل : المرجع السابق ، ص 239-228.
([18]) صدرت في طبعتها التجريبية تحت هذا العنوان في أواخر الثمانينات ، ثم صدرت في طبعتها المعتمدة عن دار البشير ، عمان ـ 1992 م.
([19]) ينظر على سبيل المثال : عماد الدين خليل : محاولات جديدة في النقد الإسلامي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ـ 1981 م ، ومدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ـ 1987 م ،
و ( متابعات في دائرة الأدب الإسلامي ) ( قيد النشر ) وقد تضمن الكتاب الأخير في فصل ( قراءات في دائرة الأدب الإسلامي ) عرضاً نقدياً لعدد من المؤلفات في هذا المجال.
([20]) ينظر : عماد الدين خليل : في النقد الإسلامي المعاصر ، الطبعة الثانية ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ـ 1983 م ، فصل ( نحو مسرح إسلامي معاصر ).
([21]) ينظر ذلك في كتابه : ( النقد الأدبي ومدارسه ) ، ترجمة إحسان عباس ومحمد يوسف نجم ،
دار الثقافة ، بيروت ـ 1958 م ، ص 255-245.