مرئيات في الرواية الإسلامية التاريخية تطبيقاً على ( السيف والكلمة )
بقلم : أ. د. عماد الدين خليل
" بحث مقدم إلى الملتقى الدولي الخامس للأدب الإسلامي المنعقد في 25 ـ 27 أكتوبر 2007 م في مراكش المغرب / بالتعاون بين كلية اللغة العربية في جامعة القرويين والمكتب الإقليمي في المغرب لرابطة الأدب الإسلامي العالمية ".
مرئيات في الرواية الإسلامية التاريخية تطبيقاً على ( السيف والكلمة )
1 ـ حول قيمة الرواية
قد يكون غياب التوازن بين الكم الهائل المطروح من الشعر والشحة الملحوظة في الأعمال الروائية في ساحة الأدب الإسلامي المعاصر ، مبرراً كافياً للتأكيد على ضرورة منح هذا الجنس الأدبي المتميز الاهتمام الذي يستحقه. وقد يكون ضعف التغطية النقدية الروائية وانحسارها ـ وغيابها أحياناً ـ مبّرراً آخر.
لكن هذا وحده لا يكفي إذا تذكرنا كيف أن الرواية ، في العقود الأخيرة ، غدت أكثر الأجناس الأدبية استهواءً لجماهير المعنيين بالهمّ الأدبي ، بل للقاعدة الأوسع من القرّاء بشكل عام.
إنها تنطوي على إغراء من نوع ما ، فهي فضلاً عن الفضاء الواسع الذي تنسج خيوطها فيه ، وشبكة الخبرات المزدحمة التي تتدفق عبر السرد وتتشكل بها الحبكة ، تقدم متعة بالغة للقارئ لا أظن أن أحداً منا ينكرها وهو يتذكر الخط الطويل من الروايات التي قرأها ، والساعات السعيدة العذبة التي قضاها وهو يبحر في أمواجها المتلاطمة. بل إنه حتى الباحثين عن جماليات الأداء الشعري وشحناته التي تكهرب الوجدان ، يمكن أن يعثروا على ضالتهم في الرواية ، إذا تذكرنا أن الأعمال الروائية الكبيرة ، كما يقول ( غابرييل ماركيز ) في ( رائحة الجوافة ) : " نقل شعري للواقع ".
ولن يكون نوعاً من المجازفة القول بأن الرواية هي جماع الأجناس الأدبية كافة ، إذ هي تضمّ جناحيها على التوتر الدرامي في المسرحية ، ولحظة التجربة المكثفة في القصة القصيرة ، والشحنة الوجدانية في القصيدة ، والشهادة الانطباعية على العصر ، في هذه البيئة أو تلك ، فيما تمارسه السير الذاتية وأدب الرحلات.
وقد يكون مبالغاً فيه ما ذكره ( د. هـ . لورنس ) من أنه " يعتبر نفسه ، لكونه
روائياً ، أرفع شأنا من القدّيس ، والعالم ، والفيلسوف والشاعر " وأن الرواية هي كتاب الحياة الوضاء "([1]). لكن مما لا جدال فيه أن المساحة التي يتحرك عليها الروائي كبيرة حقاً ، وان الدور الذي يمارسه ينطوي على فعالية بالغة.
الرواية هي " صورة للحياة " كما يقول ( بيرسي لوبوك ) في ( صنعة الرواية )
" والحياة أمر مألوف بالنسبة لنا ، لذلك دعونا قبل كل شيء ندرك هذه الرواية ، ومن ثم ـ باستعمال ذوقنا ـ دعونا نحكم عليها فيما إذا كانت صادقة مفعمة كما هي الحياة في الواقع. نحن نعلم أن النظرة تذهب إلى أبعد من هذا بقليل ، فالرواية هي عبارة عن صورة أو لوحة ، ونحن لا ننسى أن في اللوحة أشياء أكثر مما تنطوي عليه المشابهة. نحن نبحث في الرواية عن الشكل ، الحبكة الروائية ، البناء ، كما هو الحال في أي عمل فني ، فالرواية هي خير ما يحتوي هذه الأشياء. يجب أن تحصل على ذلك إذا كانت الرواية عملاً فنياً خالصاً ، يجب أن تكون كذلك طالما كان من الواضح أن النقل الحرفي للحياة هو أمر مستحيل "([2]).
وفي رسالة موجهة إلى الأديب الفرنسي أوكتاف ميربو ( عام 1903 م ) ناقش
( تولستوي ) مسألة ممتعة حيث كتب قائلاً : " اعتقد أن كل شعب يستخدم أساليب مختلفة للتعبير الفني عن مثل مشتركة ، وبفضل هذا نتمتع نحن بلذة خاصة عندما نجد مثلنا وقد انعكست بشكل جديد غير متوقع "([3]).
إن ( ديالكتيك الروح ) عند ( تولستوي ) " هو كلمة جديدة حقا في الأدب ( الروائي ) ، لقد كشف التركيب بين الملحمي والنفسي إمكانات عظيمة أمام الأدب لاستيعاب الواقع
جمالياً "([4]).
إن الرواية الناجحة ، كما يقول ( كولن ولسون ) : " هي تلك التي تبني التوتر ثم تسمح له بالانطلاق كالرعد "([5]).
وإذا كان الشعر يهزّ المشاعر ويؤجج العواطف فان ( الرواية ) تبدّل الأفكار ، وتغير المواقف ، وتعالج مختلف قضايا الحياة ومشكلات المجتمع بإعطاء الحلول ، أو فتح طريق للحلّ ، وهذا ما لا يتسع الشعر له([6]).
ويتحدث ( بيرسي لوبوك ) في الفصل الثامن من كتابه ( صنعة الرواية ) ، عن البانورامي ( التصويري ) والدرامي في العمل الروائي " وهما من أنواع التناقض الذي
يبرز في الرواية باستمرار([7]). والحق أن البانورامي والدرامي لا ينطويان على التناقض بالضرورة ، إذ هما يكمل أحدهما الآخر ، فيعطيان للروائي مساحة واسعة للعمل لعرض
" خبرته " بتفاصيلها وشحناتها معاً.
إن الكتابة الروائية " إلى جانب كونها رصد لبيئة اجتماعية ونماذج بشرية ومعايشة لهموم الأفراد والجماعات ، فهي أيضاً إبداع يستوجب الإضافة ولا يقف عند حدود الالتقاط الخارجي والانتقاء لهذا النموذج أو ذاك ، ولكن بالصورة التي تضمن شروط الفن وتعطيه كينونته المتميزة "([8]).
وما يمنح العمل الروائي قيمته أيضاً أنه في بدء التحليل ومنتهاه يعكس واقعاً ما ، إذ
لا يوجد أبداً ـ كما يقول ( غارودي ) ـ فن غير واقعي ، أي لا يوجد فن لا يستند إلى واقع متميز ومستقل عنه ، وتعريف هذه الواقعية معقد للغاية ، لا يستطيع أن يتجرد من الوجود الإنساني في صميم الواقع ، بوصفه خميرة الواقع "([9]).
وفي كل الأعمال الأدبية الناجحة " تتحد قوتان تسيران في اتجاهين متضادين لخلق
قوة ثالثة عند زاوية قائمة. ويجري خلق وحدة أية رواية عظيمة بواسطة توتر القوى المتعاكسة "([10]).
والعالم لدى الروائي ( نمط ) أو ( بنية عضوية ) يضم العقدة ، الشخصيات ، البيئة ، نظرة إلى العالم ، الجرس " وهو ما يجب أن نتفحصه حين نقوم بمقارنة الرواية بالحياة ، أو نقوم بالحكم الأخلاقي أو الاجتماعي على عمل الروائي "([11]).
والرواية الكبيرة تنبض بروح الشعر ، بالمنولوج الشاعري ، باللغة الشاعرة ، وبصوت الموسيقى .. إنها نقل شعري للواقع ، كما يؤكد كبير روائيي أمريكا اللاتينية ( غابرييل ماركيز ). ولأنني قد أعطيت هذه المسألة جلّ اهتمامي في روايتي ( السيف والكلمة ) فسأقف عندها قليلاً.
ولأبدأ بمنابع الموسيقى الظاهرة في الكلام الأدبي ، والتي يمكن ردّها إلى الأصول التالية : " هناك أولاً الموسيقى النابعة من تآلف أصوات الحروف في اللفظة الواحدة ، وهناك ثانياً الموسيقى النابعة من تآلف الكلمات حين تنتظم في التركيب فقرات وجملاً. وهذان الينبوعان يمكن أن يسترفدهما الأديب الفنان في قالب الشعر وقالب النثر على حد سواء فلا يستأثر بهما الشعر دون الناثر. كلاهما قادر إذا أوتي الكفاءة التقنية اللازمة لعمله على استدرار الموردين الموسيقيين والإفادة منهما في حقل العمارة الفنية "([12]).
إن كل عمل أدبي فني ـ بما في ذلك الرواية ـ هو قبل كل شيء " سلسلة
من الأصوات ينبعث عنها المعنى. هذه الطبقة من الأصوات تقل أهميتها في بعض الأعمال الأدبية ، ولنقل بصراحة أنها تغدو شديدة الوضوح ، كما في معظم الروايات ، ولكن حتى في هذه الروايات تظل الطبقة الصوتية شرطاً مسبقاً ضرورياً "([13]).
والرواية كشكل فني " هي من طبيعة القول الشعري ، وهي في أرفع أشكالها الحفيد الوليد للملحمة التي تعتبر هي والمسرحية شكلين أدبيين عظيمين "([14]).
ومن خلال تجاربه المتطاولة مع الرواية يصل ( كولن ولسون ) إلى الاستنتاج التالي : " لقد ظل يبدو لي ممكنا أن من الجائز أن تخلق الرواية لغة أصيلة تامة ، وأن ترقى إلى شكل جديد يتحد بالموسيقى "([15]).
ويتحدث ( غاستون باشلار ) في ( جماليات المكان ) عن ثنائية العقل والروح ، فكلاهما لا غنى عنهما لدراسة ظاهرة الصورة الشعرية في أدق ظلالها " وأن علينا في
كثير من الظروف أن نقر بأن الشعر هو التزام الروح ، وأن الوعي المتصل بالروح أكثر استرخاء وأقل قصدية من الوعي المتصل بظاهرة العقل. ان هنالك قوى تتبدى في الأشعار
لا تمر عبر دوائر المعرفة المغلقة. كما أن جدل الإلهام والموهبة يصبح واضحاً إذا أخذنا بالاعتبار قطبيه : الروح والعقل "([16]).
و ( تولستوي ) نفسه " بدأ استخدام المنولوج الشاعري في ( اليوميات ) وواصله في ثلاثيته ( الطفولة ، الصبا ، الشباب ) منطلقاً من شخصيته الفريدة وتحليل الذات ، مكتشفاً بالإضافة إلى ذلك ، في الصورة الذاتية للمؤلف ، جزء من الشيء العام ، وهي القوانين الثابتة والمؤقتة للحياة الإنسانية "([17]).
وعندما أعلن الشعراء الرمزيون انتهاء نظرية ( الجنس ) أو ( النوع ) القاطع ، وعزلته المقفلة على الأنواع الإبداعية الأخرى " وعندما سمحوا بالتزاوج بين النثر والشعر في عمل أدبي واحد ، ظهر حينئذ نوع جديد من الروايات. إن روايات جيمس وبروست وجويس وكونراد وفوكز وفرجينيا وولف هي إلى حد ما الإرث الروائي الذي خلقه الشعر الرمزي الفرنسي "([18]).
بل ان الشعراء أنفسهم بدأوا بمرور الوقت يعانون مما يمكن تسميته تسطح اللغة واستهلاكها " وغياب البعد الجوهري ، أي الطاقة الحيوية عندهم ، وشعروا بأن سطح اللغة لم يعد مضيئاً ، لا بل أصبح معتماً ، وكلما نقترب من العصر الحديث تصبح هذه التجربة مألوفة لنا "([19]). والظاهرة نفسها لا تقتصر على حدود مملكة الشعر بل تمضي وبالإلحاح نفسه إلى عالم الرواية.
والهدف دائماً هو تفريغ الشحنة بأقصى وتائر القدرة على التأثير في " المتلقي " ، والشعرية هنا تبدو عاملاً مساعداً ، بل عاملاً أساسياً. وتقول ناتالي ساروت مستمدة استنتاجها من خبرتها الذاتية : " اعتقد أننا متشابهون كثيراً في بعض الأحيان وفي بعض المجالات. حينما أشعر شخصياً بشيء وبعنف ، وإذا استأثر به الأسلوب ، فسينتقل بدوره إلى القارئ الذي سوف يستلمه على شكل تفريغ كهربائي عندما تنجح عملية الانتقال هذه "([20]).
إنه جهد متواصل يتطلب الممارسة والمعرفة " من أجل إعادة خلق الرواية في صيغتها السليمة ، وأن أفضل شكل تقمصته المادة وعرضها المؤلف فيه لهو الجدير بالقبول. إن قارئ الرواية الذي أعني به هنا القارئ الناقد ، هو كاتب روائي ، فهو صانع الكتاب الذي قد يرضي وقد لا يرضي ذوقه. إلاّ أن عليه أن يأخذ نصيبه في المسؤولية منه. إن المؤلف ينجز نصيبه من الكتاب ولكن لا يستطيع أن يتأكد من إتقان الناقد لعمله ، ولذلك فان على القارئ أن يصبح بالنسبة لنصيبه من العمل روائياً ليس له أن يسمح لنفسه أن يفترض بأن الكتاب انما هو أمر يخص المؤلف وحسب "([21]).
ولكي نقرأ يجب أن نكون " على معرفة بالأساليب الأدبية والاصطلاحات التي ينشرها ذلك العمل ، كما يجب أن يكون لنا مقدار من الفهم بقوانينه التي تعني القواعد التي تتحكم بوسائل صياغة المعاني "([22]).
وليست القراءة ـ كما يقول ( ايغلتن ) ـ " حركة مستقيمة الخطوط أو عملية تجميعية. إن تأملاتنا الأولية تولد إطاراً لمرجع نستطيع من خلاله تفسير ما يلي. ولكن ما يأتي فيما بعد قد يغيّر فهمنا الأساسي مسلطا الضوء على بعض السمات ومبعداً الأخرى عن الأضواء. عندما نواصل القراءة نقدم الافتراضات ونراجع المعتقدات ونقوم باستنتاجات وتوقعات كثيرة ومعقدة. تفتح كل جملة أفقاً ثابتاً معرضاً للتحدي أو للنسف بتأثير النصّ. نقرأ من الخلف إلى الأمام ومن الأمام إلى الخلف في آن واحد فنتنبأ ونتذكر وربما ندرك مفاهيم قد حرمتنا منها قراءتنا ومع ذلك فان كل هذه الفعالية المعقدة تجري على عدة مستويات في آن واحد ، لأن للنص خلفيات وأماميات ووجهات نظر مختلفة من المعاني نتحرك من خلالها بثبات "([23]).
و ( السيف والكلمة ) رواية تاريخية وفق التصنيف التقليدي ، رغم أنها تمارس تناصّاً يلتحم بالعصر في جل مفرداته ، فبغداد في منتصف القرن السابع الهجري هي نفسها في مطالع القرن الحادي والعشرين الميلادي ، والقوى التي تصطرع فيها هي نفسها مع تغاير العناوين والأصول ، والمذبحة البشرية والثقافية التي تعرضت لها يومذاك هي نفسها التي نتعرض لها اليوم ، ومصائر أولئك الذين عاشوا المحنة هي نفسها هنا وهناك.
كتب ( تولستوي ) في مذكراته ( 5 نيسان 1870 م ) " التاريخ هو فن ، وكأي
شكل من أشكال الفنون فهو لا يسير بالعرض بل بالعمق ، ويجوز أن تكون مادته وصف
حياة أوربا باجمعها ، أو أن تكون وصف حياة فلاح في القرن السادس عشر. وهذا ممكن
لأن الفن وحده هو الذي لا يعرف حدود الزمن ولا الفضاء ولا الحركة ، الفن وحده يعطي الجوهر "([24]).
و ( تولستوي ) ، باعتباره أحد مهندسي الرواية التاريخية يكشف عن بعد آخر لهذا النمط من الروايات .. التحام الاجتماعي بالنفسي ، والذاتي بالعام. وتلك هي إحدى الخيوط الأساسية التي تمسك برواية ( السيف والكلمة ) من بدئها حتى منتهاها : " هناك وجه واحد يطل علينا بإصرار في العديد من أعمال تولستوي .. وجه يتخذ أهمية نوعية ( اجتماعية ونفسية ) في لحظات الصراع القاسي وفي مراحل الهزات النفسية ، وفي مثل هذه اللحظات تتكشف الآفاق الاجتماعية والتاريخية للشخوص .. يندمج جانبها الذاتي بالقضية العامة "([25]).
والخبرة التاريخية تقودنا إلى الواقع بكل اشكالياته وبطبقاته المتعددة .. صحيح أن
( السيف والكلمة ) كانت أمينة إلى حدّ كبير لمعطيات الواقع التاريخي ، ولكنها لم تقف عند هذا الحدّ بل تجاوزته ، كسرت حواجزه ، ومضت للتعامل مع الجوهر والمغزى ، وهما كائنان في تاريخ كل أمة على تغاير العصور والبيئات. ولقد تعلمنا من النصّ القرآني كيف أنه لا يقف عند حافات الالتحام بالواقعة التاريخية ، ولكنه يتجاوزها إلى المغزى الذي لا يأسره زمن أو مكان : ) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ # هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ # وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ # إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ... ( ([26]) .. ) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ([27]).
وأتذكر هنا عبارات ( لروجيه غارودي ) في ( واقعية بلا ضفاف ) تحمل دلالتها في هذا المجال : " الواقعية في الفن هي الوعي بالمشاركة في تشكيل وتجديد الإنسان لنفسه باستمرار ، باعتبار أن هذا الوعي أرقى أشكال الحرية. أن يكون الإنسان واقعياً لا يعني على الإطلاق نقل صورة الواقع بل محاكاة نشاطه ، وهو ليس تقديم نسخة منقولة من خلال ورق شفاف أو طبع صورة منه ، بل المشاركة في البناء المبدع لعالم لا يزال في طور التكوين
مع اكتشافه إيقاعه الداخلي. إن الفنان واحد من المناضلين له نصيبه من المبادرة التاريخية ومن المسؤولية ، وهو مطالب ككل إنسان آخر لا بالاكتفاء بتفسير العالم ولكن بالمشاركة في تغييره ، ومهمة الفنان تختلف عن مهمة الفيلسوف أو المؤرخ ، فهو ليس مطالباً بأن يعكس الواقع بأكمله "([28]).
في ( وداع للسلاح ) للروائي الأمريكي ( أرنست همنغواي ) ، وهي من أكثر رواياته شهرة ، نلتقي بالتاريخي واللاتاريخي ، فالرواية من جهة تستخدم ما يسميه ( كولن ولسون )
( التكنيك الفوتوغرافي ) لنقل وقائع الحرب في 1914 م " إلاّ أن ذلك الواقع الوحشي والعنيف تخترقه قصة حب بين البطل وممرضة في الحبش .. إن هذا التباين الحادّ بين الكآبة المتشكلة في التاريخ والدفء المتشكل في وجدان الإنسان هو الذي منح الرواية تأثيرها العاطفي "([29]).
وأتذكر في هذا السياق ـ كذلك ـ حواراً جرى بين ( هوتشنر ) ، رفيق همنغواي وبين الكاتب : " وسألته : كم يوجد في ( لمن تدق الأجراس ) من حوادث حقيقية ؟ أجاب : ليس بالكثرة التي تتوقعها. وهناك مثلا الجسر الذي دمّر ، وقد حضرت تدميره ، وكذلك حادثة نسف القطار ، لقد شاهدتها بعيني كما وصفتها في الكتاب .. ولكني ابتكرت الشخصيات والحوادث التي في الكتاب من معلوماتي ومشاعري وآمالي "([30]).
والرواية التاريخية التي تنبض بالشعرية هي بالتأكيد " أكثر تفلسفاً وجدية من التاريخ ، فالشعر ( كما يؤكد أرسطو في كتاب الشعر ) يدور في أساسه حول الحقيقة العامة ( الكلية ) على حين أن التاريخ يدور حول الحقيقة الجزئية. إن موضوع الشعر هو الحقيقة ، لا الحقيقة الفردية المحلية ، ولكن الحقيقة العامة التي تحكم الأفراد ، وليست هي الحقيقة التي تقوم على أساس من المشاهدة الخارجية وانما تنقلها العاطفة حية إلى القلب "([31]).
والسؤال الآن : هل يمكن اعتبار ( السيف والكلمة ) ملحمة ؟ والجواب قد يكون بنعم إذا أخذنا في الاعتبار المناخ الشعري الذي اعتمدته لغة الرواية ، هذا فضلاً عن أنها تعكس ما يمكن اعتباره معركة كبيرة بين قوتين أتت احداهما على الأخرى ، بينما سعت هذه ـ وفق قدراتها الممكنة ـ إلى الاّ تطويها إرادة الغالب .. والملحمة في التحديد الشائع " قصة شعرية طويلة تدور حوادثها حول معارك ضخمة وبطولات خارقة خاضها شعب من أجل قضية تتصل بوجوده الإنساني والقومي ، ودفاعا عن مأثوراته ومقدساته العريقة ، وهي إذ تصف المعارك والبطولات تصوّر عصراً بكامله من عصور هذا الشعب ، وما يعيش فيه من تقاليد ويسعى إليه من مثل ، ويتبناه من مفاهيم ومعتقدات وأفكار. وأما أبطال الملحمة فهم دائماً نماذج رفيعة لما يجسدونه في مشاعرهم وتصّرفاتهم من واقع الناس والحياة في عصرهم وفي بيئتهم "([32]).
وفي هذا السياق فان الرواية تعكس ، بشكل من الأشكال ، رؤية التزامية يلتحم في نسيجها السياسي بالاجتماعي ، وتدعو إلى المقاومة وعدم الاستسلام ، وبذل الجهد في حدوده القصوى لحماية التراث والمقدسات والخصوصيات .. ليس هذا فحسب ، بل إنها تبشر بالخلاص .. بالفجر القادم من ( فلسطين ) كما ينبيء المقطع الأخير لبطلها ( الوليد ) .. ورغم أن الرواية تنتهي ها هنا ، إلاّ أننا نعرف على المستوى التاريخي ما الذي حلّ
بالغزاة في ( عين جالوت ) بفلسطين بعد أقلّ من سنتين ، حيث كسر عنقهم هناك ، وأوقف اندفاعهم ، وأبيد جيشهم الزاحف غرباً باتجاه مصر ، وقتل قائدهم ( كتبغا ). ولأول مرة تدفع هذه الهزيمة الساحقة الطاغية ( هولاكو ) إلى البكاء .. إنه أدرك بحسّه الثاقب أن الحلم المغولي بامتلاك العالم سيطوى ، وأن زمن الانتصارات والاندفاعات الأسطورية لاكتساح العالم قد ولى .. فيما بعد ، وتاريخياً أيضاً ، أعلن المغول أنفسهم انتماءهم للإسلام ووضعوا قدراتهم المدهشة تحت تصرّف عالمه الممتد على قارات ثلاث .. إن نجاح ( الوليد ) في الوصول إلى حافات فلسطين في لحظات الرواية الأخيرة ينبئ بهذا كله ، ويعكس موقفاً التزامياً بكل تأكيد.
إنه حتى الكتاب الحداثيين أكدوا المرة تلو المرة على هذا البعد في آداب الأمم والشعوب كافة. وقد صرح ( ميشيل بوتور ) قائلاً " لست متفقاً مع الكتاب الذين يعتبرون أن الأدب
لا يجب أن يملك علاقة بالحياة الاجتماعية والسياسية. أنا شخصياً لا أعتقد بوجود أدب من أجل الأدب فقط ، سواء كان هناك سلام أم حرب ، فان عالم الفلك الذي يستمر يتأمل النجوم بالرغم من أن ظروف الحرب تعرقل عمله الفلكي ، وتجعل عمله فارغاً ولا يحمل في طياته فائدة ما ، لكن عمله في الواقع يجلب فائدة للانسانية بغض النظر عن الظروف ، وهكذا مع الأدب ، إذ أن الأديب يعطي فائدة مباشرة أو فائدة غير مباشرة "([33]).
و ( روب غرييه ) يقول هو الآخر " إني أؤمن كثيراً بالدور السياسي للكاتب ، وسيكون هذا الدور فاعلاً على المدى البعيد "([34]).
مارست ( السيف والكلمة ) قدراً من التجريب ، إذا صحّ التعبير ، دون أي مساس بالمطالب الفنيّة للبنية الروائية .. والتجريب بهذا المعنى أمر مقبول تماماً ، إذ هو يمسك بالعصا من أوسطها فلا يفرط بالتراث العالمي للفن الروائي ، وثوابته التي نسجتها أجيال المبدعين ، ولكنه في الوقت نفسه لا يقف ساكناً ، مستسلماً ، إزاء حلقات أو مفردات هذا التراث .. إن عليه أن يمضي قدماً لكي يغيّر ويبّدل ويضيف وينوّع ويفتح ممرات جديدة في تقنيات العمل الروائي ، دون أن يضطره هذا لهدم أو تخريب " المتفق عليه " في بنية الرواية.
باختصار شديد ، إن ( التجريب ) يجب الاّ يتحول إلى ( تخريب ) نخسر معه تراث الأجيال الماضية ، ويقذف بنا وبالقراء بعيداً في متاهات قد لا تبقي للرواية حتى اسمها المتعارف عليه.
توظيف البناءات اللغوية ، الشعرية ، المنولوج الداخلي ، انثيال الوعي واللاوعي وتداعياتهما ، استغلال تقنيات الإسقاط التاريخي واللاشعوري ، كسر التسلسل الرتيب للزمن ، توظيف الأحلام والكوابيس ، ضغط الفضاء الروائي ، التغيير المفاجئ لضمائر الخطاب ، فتح المنافذ على عالم الروح والخبرة الميتافيزيقية على مصاريعها ، النسبية أو النظر إلى الحادثة الواحدة من زوايا متعددة ، الحبكة التي تتعاقب على نسجها عدة أصوات يعود الدور على كل واحد منها بعد إتمام الجولة ، لكي يتدفق السرد باتجاه المصب الأخير الذي تتكشف عبره دلالة الفعل الروائي .. ثم الترميز المشحون الذي ينطوي على عدة طبقات في الوقت نفسه.
هذا بعض ما نفذته ( السيف والكلمة ) في محاولة لتجاوز الرتابة والتقليد اللذين امسكا برقبة الرواية ردحاً طويلاً من الزمن.
لنسّمه تجريباً ، ولنتواضع أكثر فنعتبره " إضافات فنية " لمعمار العمل الروائي ، وهي إضافات سبق إليها ونفذها كثيرون غيري بكل تأكيد.
سئل ( روبير بنجيه ) : ما هي مفاهيمك للرواية ؟ أو بالأحرى : ما هي في رأيك مميزات الرواية الجديدة ؟ فأجاب : الرواية الجديدة بالنسبة لي هي الرواية التي تجعلك تفكر بالطريقة التي كتبت فيها الرواية "([35]).
ولعل الإضافات التي حققها " جيل ( التجاوز ) تكمن في إعادة تفكيك وبناء القوانين التي كانت تشكل بنية النصّ القصصي. فهذا التفكيك أصبح يتعامل بذكاء مع استخدام المخيلة التي لم تعد وظيفتها نقل مظاهر الواقع اليومي ، بل أصبحت تقوم ببعد تفجيري ينطلق أولاً من المعطيات الواقعية ليعيد تشكيلها في فضاء قصصي تلعب فيه اللغة دوراً رئيسياً ، ذلك أن اللغة لم تعد سكونية ، كما هي الحال عند جيل الرّواد مثلاً "([36]).
ويؤكد ( مالكم براد بري ) بعض ما ذهب إليه ( شاؤول ) : الابتعاد عن الأساليب التقليدية للكلام ، والاهتمام الكبير بالمشاعر .." ([37]).
تفجير اللغة ، والخروج على الأنماط الروائية السائدة ، " وتجاوز الرؤية الواقعية ، والوظيفة الميكانيكية للمخيلة إلى الوظيفة الابتكارية التي تشيد واقعاً جديداً هو الواقع الروائي لا الواقع المشاد عن طريق النقل الآلي أو الانعكاس. هذا كله جعل المبدعين يطمحون إلى تأسيس رؤية جديدة ، وتقنيات جديدة ، ولغة روائية جديدة تتجاوز المألوف والمعهود إن من حيث تركيبها الدرامي أو من حيث لغتها المتفجرة ، وهذا سيحدّ نوعاً من المغامرة غير المضمونة النتائج "([38]).
" المغامرة غير المضمونة النتائج " ، هذا ما يجب أن يؤكد عليه الناقد المعاصر
لئلا يتفكك العمل الروائي ويفقد شخصانيته الفنية التي هي إرث القرون الطوال .. إن هذا " التجريب المغامر " في ( وعي العالم الروائي ) " يتجاهل كل ما سبقه من إبداع ، كما
يتجاهل علاقة المبدع بالقارئ ، وهذا بالطبع تجريب مجاني لا رصيد له ولا مستقبل ، لأنه يعد الفن هذياناً أو هلوسة. وهناك التجريب المعتدل الذي يؤسس على إبداع سابق ، ويحاول إيجاد صلة مع القارئ تعتمد على جماليات مشتركة بين المبدع والقارئ ، وهو تجريب معقول ومسؤول "([39]).
على من تقع مسؤولية الذهاب بالتجريب إلى حدوده القصوى التي تضيع معها
مقومات هذا النوع الأدبي المتميز ذي الجماهير العريضة والتأثير البالغ في الفكر والثقافة ؟ : الرواية " التي ظلت تحمل هويتها حتى جاء جيمس جويس ومارسيل بروست فألغيا بعديْ الزمان والمكان ، ودمّرا الحواجز بين الشعر والرواية ، ونزعا صمّام الأمان عن اللاوعي فتدفق المنولوج. ثم استكمل فرسان الرواية الجديدة : الان روب غرييه وميشال بوتور وناتالي ساروت المغامرة الروائية فدقوا آخر مسمار في جثة الرواية التقليدية ورفعوا شعار
( اللارواية ) أو ( الرواية الجديدة ) من أجل فسح المجال للأشياء كي تسفر عن ذاتها بحرية ميلودرامية ، وحياد بارد ، و ( موضوعية ) تامة "([40]).
إن إلغاء جميع العناصر الفنية قد أوقع الرواية التجريبية في مأزق اللاشكل ، ففقدت الرواية هويتها ، وضاعت بين الشعر والقصة والرواية([41]).
والتجريب المطلوب هو " التجريب المنضبط الذي يحاول الاحتفاظ بقارئه وإن ظل يتقدمه عن بعد مناسب ، ويرغمه على الانفتاح على عالم جديد ومثير ، يعتمد التجريب والتجريد والترميز ، وأحياناً الغموض ، والشعرية في التقنية الروائية "([42]).
وأخيراً ، فان ثمة سؤال ملح يفرض نفسه : هل لابدّ من التجريب ؟ من تقديم إضافات ومتغيرات نوعية في البنية الفنية للعمل الروائي ؟ والجواب يفرض نفسه هو الآخر وهو فيما إذا كان التجريب منضبطاً أم منفلتاً ؟ فانه في الحالة الأولى يصبح ـ بحق ـ ضرورة ملزمة إذا أردنا للرواية أن تواصل صيرورتها الفنية نحو الأفضل ، ولأن " البناء الفني للرواية التقليدية يقوم على الحكاية ، والزمن الواحد المسلسل ، والراوي التقليدي المطلع والعارف بكل شيء ، والتعليمات المباشرة ، والخطابية ، وتدخل المؤلف بالتعليق على الأحداث ، والشرح ، والفصول الطويلة التي تشكل حشواً وأوراماً ، وتعرقل السياق الروائي ، وتصيب بناء الرواية بالترهل ، وتضعف من تطور أحداثها .. وتبدو مستقلة تماماً عن تصاعد الدراما في الرواية ، كما أن الحوار طويل وغير درامي ، ويكرر الكثير من الأفكار "([43]).
6 ـ السيف والكلمة : تقنية الرواية
كانت ( الإعصار والمئذنة ) خطوة على الطريق ، ومعظم الكتاب ـ كما يؤكد
( كولن ولسون ) " يتعلمون من روايتهم الأولى أكثر مما يتعلمونه من أية رواية أخرى "([44]).
تحاول الرواية توظيف الغزو المغولي لبغداد من خلال تنامي الحدث عبر أربعة أصوات وبضمائر متغايرة يغيب فيها الراوي تماماً ( والذي تختبئ خلفه في معظم الأحيان اقتحامات فجة للروائي نفسه كما فعلت في الإعصار والمئذنة ) وذلك في محاولة لتنفيذ معمار أكثر حداثة في العمل الروائي الإسلامي.
لقد تم كسر حاجز الزمن وتسلسله الرتيب ، ولكنه لم يغيّب ، كما يحدث في بعض أعمال الحداثة الروائية في الغرب ، إنه حاضر في نسيج السرد ، وليس من الضروري أن يكون هذا الحضور كعقرب الساعة الذي يدور على نفسه ويظل يدور. إن الزمن الروائي في ( السيف والكلمة ) يماثل سيرورة الزمن الموضوعي في شكل تتابع أفقي " وهذا لم يمنع من رجوع السرد إلى الماضي ، فهناك انقطاعات عديدة في سيرورة السرد المستقيم. والرجوع إلى الماضي جاء وفق نسق مزدوج ، فهو إما في شكل ذكريات يستعرضها بعض الأبطال ، أو يتولون استحضارها لتفسير سلوكهم "([45]).
هذا المنظور الفني الصرف يعكس معادلاً موضوعياً إسلامياً : حرية الإنسان ، والعدل الإلهي المطلق الذي يرتّب الأسباب على المسببات. إننا بأمسّ الحاجة إلى قيم فنية تعكس حالتنا الإسلامية بكل مفرداتها وحلقاتها .. تعكسها جمالياً ، وليس عبر مقولات العقل
الخالص ، وهذه هي مهمة الأدب ، ومن هنا يمكن للمرء أن يدين العديد من الأدباء الإسلاميين الذين لا يولون اهتمامهم للجانب الفني ويرمون بثقلهم صوب المضمون. إنهم في هذه الحالة
لا يكادون يفعلون شيئاً إذا أردنا أن نحاكمهم إلى مطالب النوع الأدبي وليس إلى الخطابة أو التاريخ أو الإعلام.
مهما يكن من أمر فان الذي ينتصر في " السيف والكلمة " هو واحد فقط من بين أربعة شخوص طوتهم المجابهة الصعبة .. لماذا ؟ لأنه استطاع أن يتجاوز أسر الأحادية وأن يتحقق إنسانياً وفق مطالب الشخصانية الإسلامية التي نادى بها هذا الدين.
مرة أخرى يحدث هذا من خلال نبض البطل ومعاناته وتعامله مع الموجودات والخبرات والأشياء والمرئيات ، وليس من خلال تجريد ذهني صرف.
حاولت أيضاً أن أوظف الجغرافيا والتاريخ قدر ما أطيق .. لقد درست بإمعان جغرافية بغداد بأحيائها ودروبها وجسورها وأسواقها ومدارسها وملاعبها وحوانيتها .. الخ .. درست أيضاً تاريخ بغداد لحظة الغزو المغولي .. عادات الناس وتقاليدهم وطبائعهم وأزياءهم وطعامهم وشرابهم .. جدّهم وهزلهم .. خفقانهم الاجتماعي هنا وهناك .. لم أرد ـ طبعاً ـ أن أكتب عن تاريخ بغداد وجغرافيتها .. ولكن جعل الفضاء الروائي أكثر صدقاً فنياً .. كان علي أن أعرف حتى مقالات المتصوّفة ، يومها ، وتقاليد العلماء والطلبة والدارسين.
استعرت من ( الآخر ) بعض الخبرات الفنية .. ولم لا ؟ ما دام الهدف هو توظيف التقنيات لانضاج عمل فني يطمح أن يكون إسلامياً ؟ ويمكن أن أشير هنا إلى واحدة من تلك الخبرات : ضمير الشخص الثاني الذي اعتمده الأديب الفرنسي المعاصر ( ميشيل بوتور ) والذي يقول عنه أنه يؤدي دوراً سحرياً وأنه يدعو القارئ إلى المشاركة بنشاط في حركة القصّة ..
الحق أنني وجدت في هذا الضمير ليس تنويعاً فحسب لضمائر الشخوص في ( السيف والكلمة ) ولكنه ـ فضلاً عن ذلك ـ فرصة مناسبة تماماً للمناخ الدرامي ، والمتوتّر ، والسريع الذي كانت الشخصيات الأساسية تعيشه.
سأضرب مثلاً واحداً فحسب .. منولوج يديره الأب بصيغة الضمير المذكور :
" ذهبت إلى الكيلاني على استحياء والشوق يدفعك .. أشياء كثيرة أردت أن تفضي بها إليه .. قلبك الذي وسع بغداد كلّها ينوء اليوم بهموم بغداد .. ليس هيّناً أن ترى أصدقاءك واخوانك يقتّلون أو يرحلون .. ليس هيّناً أن تجتاز سوق الكتب فلا تجد فيه شيئاً .. لا أحداً ولا حانوتاً مفتوحاً ولا كتاباً .. ليس هيّناً أن ترى كل شيء جميل يحترق ، وكل عزيز عليك يمضغ عذابه بصمت .. لم يكن هيّناً ـ أيضاً ـ أن ترى ابنك يغيب في الدروب فلا تكاد تلتقيه أو تعثر عليه .. ولا أن تعطي ابنتك السكين وتقول لها : اقطعي الحبل الذي يشدّك إلى المحبوب .. الزمن المغولي يضرسك ، وجناحك يهيض فيتطاير منه الريش .. طال يوم الخلاص يا عبد القادر فكيف السبيل ؟
" ذهبت على عجل ، مجتازاً أحياء البدرية والجعفرية الأقل زحمة فقالوا لك : خير لك أن ترجع .. تساءلت ووجع القلب يشدّد عليك الخناق : لماذا ؟ قالوا : انهم يسدّون اليه
الطرق .. صرخت : لماذا ؟ قالوا : لن يسمحوا لأحد أن يزوره أو يلتقيه بعد اليوم .. صرخت كرة أخرى : لماذا ؟ لم يجبك أحد ، وكان عليك أن تسترجع الصرخة المدوّمة في الفضاء الذي لا شيء فيه .. ان تعتقلها في روحك الموجعة ، فها هوذا الفضاء الوحيد المتبقّي الذي لن يخترقه المغول ".
لقد تعامل ( المؤرخ ) مع الغزو المغولي من الخارج ، وهو لا يتابع الدقائق
والتفاصيل ، ولا يحاول النفاذ إلى العمق الإنساني للواقعة التاريخية ، وانما يكتفي برسم الهياكل الخارجية لها في حين نحن بحاجة إلى رؤية الفنان لكي نسبر انعكاسات الحدث على النفس البشرية في أزقة بغداد ودورها وأحيائها ومساجدها وأسواقها وملاعبها ومكتباتها .. لقد حاولت الرواية أن تقدم انطباعاً مأساوياً للاجتياح المغولي لبغداد وأن تومض ـ من وراء الحزن والانكسار ـ بسبل النهوض والخلاص.
ولقد حاولتُ أن أقيم معمار الرواية وفق صيغة رباعية الأدوار والأصوات ينمو فيها الحدث عبر نقلات أربع لزاوية الرؤية ومن خلال فعل وتداعيات أبطال أربعة وهم يشاركون في صناعة الوقائع والأحداث ، ويغرقون في تيارات وعيهم الباطن ويدخلون سيلاً من المنولوجات التي تعكس رؤيتهم الانطباعية لتلك الوقائع والأحداث .. وهم ينطلقون منذ اللحظات الأولى كل من اختياره الحر لكي ما يلبث أن يجتاز شبكة من الدروب والصدمات والخبرات يجاهد كي يجعل خياره قديراً على تجاوزها بنجاح .. ولكنه ينهزم في نهاية الأمر لأنه رمى بثقله صوب نقطة ارتكاز واحدة في الكينونة البشرية ..
انها دراما الصراع بين العقل والروح والوجدان والجسد .. ولن يقدّر لأحد فيها الخلاص الاّ من خلال بذل جهد استثنائي للتحقّق بالوفاق ، وذلك ما تومئ به شخصية البطل الرئيسي ..
والرواية ، بتداخل أصواتها قابلة للتفكيك .. وسماع كل صوت منفرداً .. وهي في هذه الحالة ـ كذلك ـ تتابع تنامي الحدث ولكن بصيغة ميلوديّة مسطحة .. والمطلوب تعامل هارموني ينصت للأصوات جميعاً لكي يكتشف من وراء التغاير ـ وربما التنافر ـ توافقاً
لا نشاز فيه ، يقود الأشخاص والوقائع والأشياء إلى مصائرها.
إن بناء الرواية " وفق الرؤية النسبية ليس جديداً في الأدب الروائي الغربي وحتى العربي ، فمن المعلوم أن لورنس داريل بنى رباعيته ( الإسكندرية ) وفق هذا المنظور ، وكذلك فعل وليم فوكنر في ( الصخب والعنف ) ثم جاء الروائيون العرب فاستخدموا هذه التقنية المستحدثة : نجيب محفوظ مثلاً في روايته ( ميرامار ) حيث جعل لكل شخصية من شخصياتها وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر الشخصيات الأخرى تجاه الحادثة الواحدة ، ومثله فعل فتحي غانم في روايته ( الرجل الذي فقد ظلّه ) ([46]) .. ".
( كلود سيمون ) تحكي عن تجربتها هي الأخرى في هذا الاتجاه : " المشكلة التي واجهتني في ( حامل لوحة ) تتلخص كالآتي : كان عندي ثلاثة مجاميع مختلفة أ ، ب ، جـ أو بالأحرى مجموعة الريف ، ومجموعة المدينة ، ومجموعة حافة البحر التي لا تمتلك ظاهرياً أية علاقة فيما بينها ، وحاولت أن أجد بعض العلائق الصرفة التي يمكنها أن توحد هذه المجموعات وكيف تتراكب تراكمياً ، كما هو الحال في الرياضيات ، ولا ننسى أن لغة الرياضيات تمتلك بالتأكيد مثل لغة الأدب ، خصوصيتها "([47]).
مرة أخرى .. رفضتُ ـ منذ البدء ـ اعتماد ضمير المتحدث الغائب العالم بكل شيء لأنه سيفقد الرواية تركيزها وسيقودها إلى نوع من الفضفاضية التي تضعفها إلى حد كبير .. ليس هذا فحسب بل ان الرواية سعت إلى توظيف ثلاثة أنماط من الضمائر لتحقيق التغاير والتوتّر في الوقت نفسه .. وكان على كل بطل من الأبطال الأربعة أن يتنقل وفق ثلاثة مستويات للخطاب تبعاً للحظة زمنية التي يتحرك فيها.
انهم جميعاً يتحدثون من الداخل ، ولم يحاول الروائي أن يقتحم عليهم ضمائرهم ويتحدث نيابة عنهم ، وذلك من أجل أن يمنح حوارهم وجدلهم مع المرئيات والأشياء صدقاً فنياً ..
وكان هذا ـ ربما ـ ردّ فعل لتجربتي في ( الإعصار والمئذنة ) .. كنت اقتحم على الشخوص خبراتهم ورؤيتهم الذاتية بين الحين والحين بما قد يجعل القاريء أو الناقد ينزعج لمداخلات كهذه ، قد يتقبّلها المسرح الملحمي ـ مثلاً ـ لهذا السبب أو ذاك ، ولكنها تسيء إلى العمل الروائي .. ولهذا تحاول تيارات الحداثة أن تتجاوزها فيما نلحظه لدى ساروت وبوتور وسيمون وجنتر جراس وماركيز .. وغيرهم كثيرون .. انهم يشكلون الفضاء المعرفي لشخوصهم من خلال خبراتهم وقدراتهم ومرئياتهم وانطباعاتهم الخاصة التي تحدّد مساحات الفضاء وليس من خبرات الروائي ومرئياته بطبيعة الحال ..
تعكس الرواية ـ بشكل من الأشكال ـ أزمة الإنسان إزاء ثلاثية العقل والروح والوجدان ، وتشكل المعادلات الفنية التشخيصية لهذه القوى الثلاث ، وتمنح القناعة في نهاية المطاف بأن التشبث بأحد أطراف هذه الثلاثية منفرداً ، أو بعبارة أدق ، منفصلاً عن القطبين الآخرين قد لا يأتي بطائل أو يقود صاحبه إلى الخلاص. فعبد العزيز الذي يعكس توق العقل لامتلاك الدنيا والكشف عن أسرار الكون والبحث عن سبل التفوق والخلاص ، يسقط في الشرك ، ويضيع حيث تغيب بوصلتا الروح والوجدان ، وحيث تسيطر عليه حالة من العجلة والانتهازية واللامبالاة بالهمّ العام ، وركوب أقصر الطرق وأسهلها للحصول على كل شيء بأسرع وقت ممكن حتى لو كان ذلك على حساب منظومة القيم وحساسية الروح ونداء الضمير.
وكان علي ، بعد أن بلغ به الأمر إلى أن يدلّ على قتل عمه ( سليمان ) بسيوف المغول أن اعتمد تقنية الحلم في المقطع الأخير لكي أزيح الستار عن منطقة اللاشعور في شخصية البطل ، ثم مضيت أبعد من ذلك باتجاه ( الكابوس ) الذي يعكس ورطته وتوقه العنيف ـ في الوقت نفسه ـ لربط مصيره بالمغول وبسيدهم ( هولاكو ) فيلتحم بغبار الكتل المغولية التي كانت ترقص بوحشية عند حافات بغداد.
وفي اعتقادي أن ذروة العمل الروائي قد تكون ها هنا : التداخل الرؤيوي بين الواقع واللاواقع ، وبين المعقول واللامعقول ، وبين الرؤية والحلم الذي يزداد غرابة وتوتراً فيصير كابوساً ثقيلاً. ( ماركيز ) نفذ هذا أكثر من مرة وبشكل مدهش في ( مائة عام من العزلة ) .. وسبقه إليه ( جويس ) في ( يوليسيس ) ولا يزال القراء يتذكرون الفصل الخامس من الرواية والذي يمثل " كابوساً من الأوهام المتعاقبة في الذهن كتبت على شكل مسرحية. ويساعد هذا جويس على توظيف تأثير الواقع ـ اللاواقع بكل درجات البراعة الفنية مما يوصله إلى الذروة عندما تقوم العاهرات المخمورات بالغناء والرقص على أنغام البيانولا ، ويظهر شبح أم ستيفن من خلال الأرض أشيب أصيب بالجذام وعليها اكليل من زهر البرتقال الذاوي ، وتضع خمار الزفاف الممزق ، أما وجهها فكان متعباً بلا أنف وغدا لونه أخضر معبقاً بعفونة القبر "([48]).
الشخصية الوحيدة التي تضع خطواتها الأولى على طريق الخلاص هو ( الوليد ) المتوحد عقلاً وروحاً ووجدانا ، والذي يفيض حيوية وواقعية والتحاما بالحياة والذي يذكرنا بالشاعر ( جون بيرس ) الذي يرى ( روجيه غارودي ) في شعره " صيحة الفرح وحب الحياة ، ولو أنه كان مؤمنا لكانت قصائده صلوات شكر .. إن الوقوف بكل حماس إلى جانب قوى الحياة هو الفضيلة الكبرى ، ونقصد الحياة هنا بجميع أبعادها ، ابتداء من سريان كل عصارات الطبيعة في عروقنا حتى الإحساس بالطاقة البشرية العظمى المنتشرة عبر تاريخ الإنسان والتي تمنحه الثقة في مستقبل أسمى. إن شعر بيرس يجعلنا نحس ونعيش تلاطم أمواج التاريخ ، ويدفع انطلاقتنا نحو الطموح ونحو النشوة بالحياة "([49]).
ما الذي تزيد الرواية أن تقوله ها هنا بالذات ، بعيدا عن التجريد الفكري الذي يطمس على ألق الفن ، ومن خلال الشخوص التي تحيا وتتألم وتنبض في عروقها الحياة ؟
إنها الرؤية الإسلامية التي ترفض تجزئة الإنسان والخبرة البشرية وتدعو إلى استجاشة الطاقات كافة ، في لحظات العتمة ، بحثاً عن الاضاءات الكاشفة في نهاية النفق المظلم ..
اننا هنا بخصوص توظيف مفردة فحسب من نسيج الخبرة الإسلامية ، فماذا لو وسّعنا مدى التعامل الفني مع سائر المفردات ؟ ألا ينفتح الطريق أمامنا لنسج شبكة من الروايات التي تحمل الهم الإنساني في كل زمن ومكان ؟! حيث يغيب الفاصل تماما بين التاريخ والواقع .. بل بين البيئات ذات الخصوصية وبين العالم ، وحيث يستطيع الروائي المسلم أن يقدم أعمالاً ذات بعد إنساني مفتوح ، يتجاوز الحدود والبقع الضيّقة باتجاه العالم الواسع كالذي فعلته روايات كبيرة أدهشتنا جميعاً ووضعتنا في نقطة التوتر القصوى مثل ( الحرب والسلام )
و ( الاخوة كارامازوف ) و ( الشيخ والبحر ) و ( قصة مدينتين ) و ( مائة عام من العزلة ) و ( خريف البطريق ) و ( ذهب مع الريح ) و ( الحقيقة ولدت في المنفى )
و ( الدون الهادئ ) و ( دكتور زيفاغو ) وغيرها عشرات بل مئات من الأعمال الروائية التي فرضت نفسها على القراء في مشارق الأرض ومغاربها ؟
الهوامش
([1]) د. سيد حامد النساج : بانوراما الرواية العربية الحديثة ، المركز العربي ، بيروت ـ 1982 م ، ص 1.
([2]) بيرسي لوبوك : صنعة الرواية ، ترجمة عبد الستار جواد ، دار الرشيد ، بغداد ـ 1981 م ،
ص 20-19.
([3]) ف . غ . ادينوكوف : عن الأدب الروائي عند تولستوي ، ترجمة د. محمد يونس ، دار الرشيد ، بغداد ـ 1981 م ، ص 17.
([4]) المرجع نفسه ، ص 7.
([5]) فن الرواية ، ترجمة محمد درويش ، دار المأمون ، بغداد ـ 1986 م ، ص 101.
([6]) يحيى الحاج يحيى : القصص الإسلامي المعاصر ، دار المجتمع ، جدة ـ 1994 م ، ص 25-24.
([7]) صنعة الرواية ، ص 107.
([8]) بول شاؤول : علامات من الثقافة المغربية الحديثة ، المؤسسة العربية ، بيروت ـ 1979 م ، ص 76.
([9]) واقعية بلا ضفاف ، ترجمة حليم طوسون ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ـ 1968 م ، ص 225.
([10]) كولن ولسون : فن الرواية ، ص 232.
([11]) أوستن وارين ورينيه ويليك : نظرية الأدب ، ترجمة محيي الدين صبحي ، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ، دمشق ـ 1972 م ، ص 278.
([12]) د. ميشال عاصي : الفن والأدب ، الطبيعة الثانية ، المكتب التجاري ، بيروت ـ 1970 ،
ص 99-98.
([13]) وارين وويليك : نظرية الأدب ، ص 205.
([14]) المرجع نفسه ، ص 275.
([15]) فن الرواية ، ص 271.
([16]) ترجمة غالب هلسا ، دار الحرية ، بغداد ـ 1980 م ، ص 24.
([17]) أدينوكوف : فن الأدب الروائي عند تولستوي ، ص 21.
([18]) مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن : الحداثة ، ترجمة مؤيد حسن فوزي ، دار المأمون ،
بغداد ـ 1990 م ، جزء 2 صفحة 197.
([19]) المرجع نفسه ، 25/2.
([20]) ريمون الاهو : حوار في الرواية الجديدة ، ترجمة د. نزار صبري ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ـ 1988 ، ص 54.
([21]) بيرسي لوبوك : صنعة الرواية ، ص 28-27.
([22]) تيري ايغلتن : مقدمة في النظرية الأدبية ، ترجمة إبراهيم العلي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ـ 1992 م ، ص 85.
([23]) المرجع نفسه ، ص 23.
([24]) أدينوكوف : فن الأدب ، ص 151.
([25]) المرجع نفسه ، ص 48.
([26]) سورة آل عمران ، الآيات 140-137.
([27]) سورة يوسف ، الآية 111.
([28]) واقعية بلا ضفاف ، ص 227-226.
([29]) كولن ولسون : فن الرواية ، ص 160.
([30]) أ. إ. هوتشنر : بابا همنغواي ، ترجمة ماهر البطوطي ، دار الآداب ، بيروت ـ بدون تاريخ ،
ص 171.
([31]) إ. أ. ريتشاردز : مبادئ النقد الأدبي ، ترجمة د. مصطفى بدوي ، المؤسسة المصرية العامة ، القاهرة ـ 1963 م ، ص 328-327.
([32]) د. ميشال عاصي : الفن والأدب ، ص 161-165.
([33]) ريمون الاهو : حوار في الرواية الجديدة ، ص 10.
([34]) المرجع نفسه ، ص 47.
([35]) المرجع نفسه ، ص 37.
([36]) بول شاؤول : علامات من الثقافة المغربية الحديثة ، ص 81.
([37]) الحداثة ، ص 241.
([38]) محمد عزام ، وعي العالم الروائي ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ـ 1990 م ، ص 241.
([39]) المرجع والصفحة نفسها.
([40]) المرجع نفسه ، ص 246-245.
([41]) المرجع نفسه ، ص 245.
([42]) المرجع نفسه ، ص 242.
([43]) المرجع نفسه ، ص 54.
([44]) فن الرواية ، ص 270.
([45]) محمد عزام ، وعي العالم الروائي ، ص 122.
([46]) المرجع نفسه ، ص 235-234.
([47]) ريمون الاهو : حوار في الرواية الجديدة ، ص 65.
([48]) كولن ولسون : فن الرواية ، ص 200.
([49]) روجيه غارودي : واقعية بلا ضفاف ، ص 117.